يوفر لكم موقع “من العاصمة الإخباري” خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير اليوم 30 جمادي الآخرة 1445 هـ، الموافق 12 يناير 2024م، بعنوان ” خذوا زينتكم عند كل مسجد”، جمال المظهر والجوهر.
عناصر خطبة الجمعة اليوم للشيخ خالد بدير
أولا: أهميةُ المسجدِ ومكانتُهُ في الإسلامِ.
ثانيا: آدابُ المسجدِ في الإسلامِ.
ثالثا: فضلُ شهرِ رجبٍ والأشهرِ الحرمِ.
خطبة الجمعة اليوم للشيخ خالد بدير
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ، أمَّا بعدُ:
أولًا أهميةُ المسجدِ ومكانتُهُ في الإسلامِ
للمسجدِ أهميةٌ كبيرةٌ في الإسلام، فأوّلُ عملٍ قامَ بهِ الرسولُ ﷺ بعدَ الهجرةِ هو بناءُ مسجدِ قباءٍ ثُمَّ المسجدِ النبويِّ الشريفِ، ولعلَّ في ذلكَ إشارةً واضحةً لأهميةِ وجودِ المسجدِ في المجتمعِ الإسلامِي الناشئِ.
لقد انطلقتْ معالمُ الإسلامِ مِن المسجدِ، ليكونَ روضةً مِن رياضِ الجنةِ، شيخُهُ: مَن عقِمتْ الأرحامُ أنْ تأتِيَ بمثلِهِ مُحمدٌ ﷺ، وتلاميذُهُ: أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ والصحابةُ الأجلاءُ، وأمَّا موادُّهُ المقررةُ فهي الوحيُ السماويُّ الخالدُ، وأمَّا الشهادةُ المطلوبةُ للتخرجِ فهي أنْ تكونَ كلمةُ اللهِ هي العليَا، فبناءُ المسجدِ لم يكنْ على سبيلِ المصادفِةِ، ولم يكنْ مجردَ إشارةٍ عابرةٍ ،لكنهُ منهجٌ أصيلٌ، فلا قيامَ لأمةٍ إسلاميةٍ بغيرِ المسجدِ، أو قُلْ لا قيامَ لأمةٍ إسلاميةٍ بغيرِ تفعيلِ دورِ المسجدِ .
يقولُ أحدُ المستشرقينَ (يُدعَى زهيرُ): “ما زالَ المسلمونَ في قوةٍ مادامَ معهُم القرآنُ والمسجدُ” .
إنَّ المساجدَ كلَّهَا فوائدُ وحسناتٌ، كما قالَ الحسنُ البصريُّ رحمَهُ اللهُ: ” أيُّها المؤمنُ! لن تَعْدَمَ المسجدَ إحدَى خَمْس فوائدَ، أولُهَا: مغفرةٌ مِن اللهِ تكفرُ ما سلفَ مِن الخطيئةِ، وثانيها: اكتسابُ رجلٌ صالحٌ تحبُّهُ في اللهِ، وثالثُهَا: أنْ تعرفَ جيرانَك َفتتفقَّدَ مريضَهُم وفقيرَهُم، ورابعُهَا: أنْ تكُفَّ سمعَكَ وبصرَكَ عن الحرامِ، وخامسُهَا: أنْ تسمعَ آيةً تهديكَ”.
إنَّ المساجدَ أحبُّ الأماكنِ إلى اللهِ تعالَى وإلى رسولِهِ وإلى المؤمنينَ الصالحينَ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ” أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا “. (مسلم).
فالمسجدُ فيهِ السكينةُ والطمأنينةُ والرحمةُ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” … وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ.”(مسلم).
كما أنَّ المسجدَ صلةٌ مباشرةٌ بينَ العبدِ وربِّهِ، وحينما تنقطعُ صلةُ الإنسانِ بهذهِ الحياةِ، ويوضعُ في قبرِهِ فإنَّهُ يتمنَّى لو عادَ إلى الدنيَا مرةً أُخرَى ليصلِّى ركعتينِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ بِقَبْرٍ، فَقَالَ: “مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْقَبْرِ؟ “فَقَالُوا: فُلانٌ، فَقَالَ:” رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ “. (الطبراني بسند صحيح).
وكفَى بالمسجدِ فضلًا أنَّ المتعلقَ بهِ في ظلِّ اللهِ يومَ القيامةِ، وفي ذلك يقول ﷺ:” سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا في اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ”. (متفق عليه).
ثانيًا: آدابُ المسجدِ في الإسلامِ
للمسجدِ آدابٌ كثيرةٌ في الإسلام منها:
التنظفُ والتطهرُ والتطيبُ عند الإتيانِ إلى المساجدِ: فعن الحسنِ بنِ عليٍّ رضي اللهُ عنه أنَّهُ إذا قامَ للمسجدِ لبسَ أحسنَ ثيابِهِ وأجودِهَا، فسُئِلَ عن ذلك فقال: إنَّ اللهَ جميلٌ يجبُّ الجمالَ، وإنِّي أتجمَّلُ لربِّي وهو يقولُ: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ }. (الأعراف: 31).
ومنهَا: تنظيفُ المسجدِ: وذلك بنظافتهِ وصيانتهِ عن كلِّ ما يؤذيهِم، وما أعظمَ أجرَ ذلك عندَ اللهِ، وكفاكَ أنَّ النبيَّ ﷺ حزنَ على المرأةِ التي كانت تقُمُّ المسجدَ عندما ماتتْ. ولما رأى بصاقًا في جدارِ مسجدِهِ مرةً، غضبَ غضبًا شديدًا وحكَّ البصاقَ وقالَ: {الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا} (البخاري).
ومنها: عمارَةُ المساجدِ: يقولُ سبحانَهُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]. والعمارةُ نوعان:
النوعُ الأولُ: العمارةُ الحسيةُ: وذلك ببنائِهَا وتشييدِهَا، ففي الصحيحينِ مِن حديثِ عثمانَ رضي اللهُ عنه أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: “مَن بنَى للهِ مسجدًا بنىَ اللهُ له بيتًا في الجنةِ”، فيا لها مِن بشرى لمَن بنوا مساجدَ أو ساهمُوا فيها، فالقصورُ العظيمةُ لبنةٌ مِن ذهبٍ ولبنةٌ مِن فضةٍ، تنتظرُهُم في جناتِ النعيمِ .
النوعُ الثاني: العمارةُ المعنويةُ: بالصلاةِ والذكرِ والقرآنِ، ليجتمع جمال المظهر مع جمال الجوهر.
ومنها: المشيُ إلى المساجدِ بالسَّكينةِ والوقارِ: فلعظمِ المسجدِ ومكانتِهِ، فإنَّ الماشِي إليهِ ينبغِي أنْ يتحلَّى بالسكينةِ والوقارِ، وعدمِ الإسراعِ. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ، فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالوَقَارِ، وَلاَ تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا».( البخاري).
ومنها: صلاةُ تحيةِ المسجدِ: فالمسجدُ بيتُ اللهِ العظيم، فلا بدَّ لداخلِهِ الذي يريدُ الجلوسَ فيهِ مِن تحيتهِ وهي ركعتان، فعن أَبِي قَتَادَةَ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ».(البخاري). وهو مِن السنةِ المؤكدةِ جدًا التي يتساهلُ فيها بعضُ الناسِ.
ومنها: النهيُ عن تخطِّي الرقابِ: لِمَا فيهِ مِن الأذيةِ للناسِ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَخْطُبُ، فَجَعَلَ يَتَخَطَّى النَّاسَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ» . (ابن ماجة وابن حبان بسند حسن).
ومنها: النهيُ عن إنشادِ الضالةِ في المسجدِ: وفي ذلك يقولُ ﷺ: «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا». ( مسلم) .
ومنها: عدمُ رفعِ الصوتِ في المسجدِ: حتى ولو كانَ بقراءةِ القرآنِ، لِئَلَّا يكونَ مؤذيًا ومشوشًا على المصلين. فعَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِعٌ لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي، قَالَ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ }(متفق عليه)، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَكَلَّمَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يُسْمِعْ كَلَامَهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ (الترمذي)، لشدةِ خفضِ صوتهِ في المسجدِ، وهذا ما جعلَ ثابتُ بنُ قيسٍ يختبئُ في بيتهِ ويبكِي لَمَّا نزلتْ هذه الآيةُ وقال: أنا خطيبُ الرسولِ وأرفعُ صوتِي، يا ويلِي حبطَ عملِي وأنا مِن أهلِ النارِ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ، مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: شَرٌّ، كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ: فَرَجَعَ المَرَّةَ الآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَالَ:” اذْهَبْ إِلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ” (البخاري).
ومنها: تحريمُ البيعِ و الشراءِ في المسجدِ: وفي ذلك يقولُ ﷺ: ” إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ ” .( النسائي والترمذي ).
فإنَّ مَن باعَ واشترَى في المسجدِ ارتكبَ أمرًا محرمًا؛ لأنَّهُ خدشَ قداسةَ الشريعةِ، وانتهكَ حرمتَهَا وصيانتَهَا.
هذه هي آدابُ المسجدِ والتي يجبُ علينَا أنْ نطبقَهَا على أرضِ الواقعِ، حتى نحفظَ للمسجدِ حرمتَهُ وقداستَهُ.
أيُّها المسجدُ يا مأوَى الحنينِ ******* فيك يا مسجدُ فجرُ المؤمنيـــن
فيك أطيارُ الهدَى قد سبَّحتْ ******* وسرَى في قلبِكَ الحبُّ الدفين
وبلالُ الشوقِ نادَى سَحَـرًا ******* ادخلوهَا بســــــــــــــلامٍ آمـــــــــــــنين
ثالثًا: فضلُ شهرِ رجبٍ والأشهرِ الحرمِ
إنَّ الأمةَ الإسلاميةَ في هذه الأيامِ المباركةِ تستقبلُ شهرًا كريمًا عزيزًا علينَا، ألَا وهو ( شهرُ رجبٍ )، وشهرُ رجبٍ -كما نعلمُ جميعًا- أحدُ الأشهرِ الحُرُمِ الأربعةِ: ذو القعدةِ، وذو الحجةِ، ومحرمٌ، ورجبٌ. وقد ذكرَهَا اللهُ تعالَى إجمالًا في قولِه: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التوبة : 36)؛ وبيَّنَهَا ﷺ تفصيلًا في قولِهِ: ” أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ”(البخاري).
ومعنى كلمةُ حُرمٍ أي أنَّ هذه الأشهرَ الحرمَ لهَا حرمةٌ ومكانةٌ وقداسةٌ وعظمةٌ عندَ اللهِ، فيَحْرُمُ فيها القتالُ والسرقةُ وانتهاكُ الحرماتِ كلِّهَا، لذلك تضاعفَ فيها الحسناتُ كما تضاعفَ فيها السيئاتُ.
قال قتادةٌ: إنَّ اللهَ اصطفَى صَفَايا مِن خلقِه، اصطفَى مِن الملائكةِ رسلًا، ومِن الناسِ رسلًا، واصطفَى مِن الكلامِ ذِكْرَه، واصطفَى مِن الأرضِ المساجدَ، واصطفَى مِن الشهورِ رمضانَ والأشهرَ الحُرمَ، واصطفَى مِن الأيامِ يومَ الجمعةِ، واصطفَى مِن الليالِي ليلةَ القدرِ، فَعَظِّمُوا ما عظَّمَ اللهُ، فإنَّمَا تُعَظَّمُ الأمورُ بمَا عظّمَهَا اللهُ بهِ عندَ أهلِ الفهمِ وأهلِ العقلِ. وقال ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ: “كان الرجلُ يلقَى قاتلَ أبيهِ في الأشهُرِ الحُرمِ فلا يمُدُّ إليهِ يدَهُ”.
إنَّ ارتكابَ المعاصي والذنوبِ وانتهاكَ الحرماتِ في هذه الأشهرِ ظلمٌ بيِّنٌ للنفسِ، لذلك قالَ تعالى: { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } يقولُ الإمامُ القرطبيُّ – رحمَهُ اللهُ – ” لا تظلمُوا فيهنَّ أنفسَكُم بارتكابِ الذنوبِ؛ لأنَّ اللهَ سبحانَهُ إذا عظَّمَ شيئًا مِن جهةٍ واحدةٍ صارتْ لهُ حرمةٌ واحدةٌ، وإذا عظَّمَهُ مِن جهتينِ أو جهاتٍ صارتْ حرمتُهُ متعددةً، فيضاعفُ فيهِ العقابَ بالعملِ السيئِ كمَا يضاعفُ الثوابَ بالعملِ الصالحِ، فإنَّ مَن أطاعَ اللهَ في الشهرِ الحرامِ في البلدِ الحرامِ ليس ثوابُهُ ثوابَ مَن أطاعَهُ في الشهرِ الحلالِ في البلدِ الحرامِ، ومَن أطاعَهُ في الشهرِ الحلالِ في البلدِ الحرامِ ليس ثوابُهُ ثوابَ مَن أطاعَهُ في شهرٍ حلالٍ في بلدٍ حلالٍ” .
إنَّ شهرَ رجبٍ مفتاحُ أشهرِ الخيرِ والبركةِ. قال أبو بكرٍ البلخِي: شهرُ رجبٍ شهرٌ للزرعِ، وشعبانُ شهرُ السقيِ للزرعِ، ورمضانُ شهرُ حصادِ الزرعِ. أ.هـ، فعلينَا أنْ نكثرَ فيهِ مِن الصيامِ والأعمالِ الصالحةِ. وصدقَ مَن قالَ:
بيّضْ صحيفتَكَ السوداءَ في رجبٍ … بصالحِ العملِ المُنجِي مِن اللهبِ
شهرٌ حرامٌ أتَي مِن أشهرٍ حُرُمٍ … إذا دعَا اللهَ داعٍ فيهِ لم يخبِ
طوبَى لعبدٍ زكَى فيهِ لهُ عملٌ … فكفَّ فيهِ عن الفحشاءِ والريبِ
نسألُ اللهَ أنْ يباركَ لنَا في رجبٍ وشعبانَ وأنْ يبلغنَا رمضانَ،،،