يوفر لكم موقع “من العاصمة الإخباري” خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير اليوم 23 جمادي الآخرة 1445 هـ، الموافق 5 يناير 2024م، بعنوان ” الصحة الإنجابية بين حق الوالدين وحق الطفل”.
عناصر خطبة الجمعة اليوم للشيخ خالد بدير
أولا: اهتمامُ الإسلامِ بصحةِ الإنسانِ.
ثانيا: تنظيمُ النسلِ وأثرُهُ في الصحةِ الإنجابيةِ.
ثالثا: تأملاتٌ قرآنيةٌ في آياتِ الصحةِ الإنجابيةِ.
خطبة الجمعة اليوم للشيخ خالد بدير
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ، أمَّا بعدُ:
أولًا: اهتمامُ الإسلامِ بصحةِ الإنسانِ
لقد اهتمَّ الإسلامُ اهتمامًا كبيرًا بصحةِ الإنسانِ؛ لأنَّ الإسلامَ يهدفُ إلى أنْ يرَى أتباعَهُ أصحاءَ أقوياءَ؛ لأنَّ الصحةَ والقوةَ والسلامةَ مِن الأمراضِ مناطُ التكليفِ وتولِّي الأمورِ الشاقةِ في الدينِ والدنيا، وهذا الذي دفعَ المرأتينِ إلى اختيارِ موسَى عليهِ السلامُ في طلبِ النكاحِ:
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}(القصص: 26)، وقد أخذَ العلماءُ ـ رحمَهُم اللهُ ـ هذه الآيةَ مأخذَ القاعدةِ فيمَن يلِي أمرًا مِن الأمورِ، وأنَّ الأحقَّ بهِ هو مَن توفرتْ فيهِ هاتانِ الصفتانِ، وكلّمَا كانت المهمةُ والمسؤوليةُ أعظم، كان التشددُ في تحققِ هاتينِ الصفتينِ أكثرَ وأكبرَ، وهذه القوةُ بها ينالُ العبدُ محبةَ اللهِ تعالَى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:” الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ؛ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ”( مسلم).
ولشدةِ اهتمامِ الإسلامِ بصحةِ الإنسانِ والحفاظِ عليهَا، أمرَنَا بالتداوِي والأخذِ بالأسبابِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:” مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً” (البخاري)، وعَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ:” لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.” (مسلم)، قال الإمامُ النوويُّ – رحمَهُ اللهُ-:
” هذا فيه بيانٌ واضحٌ؛ لأنَّهُ قد علمَ أنَّ الأطباءَ يقولونَ: المرضُ هو خروجُ الجسمِ عن المجرَى الطبيعِي، والمداواةُ ردهُ إليه، وحفظُ الصحةِ بقاؤُهُ عليهِ، فحفظُهَا يكونُ بإصلاحِ الأغذيةِ وغيرِهَا، وردُّهُ يكونُ بالموافقِ مِن الأدويةِ المضادةِ للمرضِ ، ……قلتُ : لكلِّ داءٍ دواءٌ، ونحن نجدُ كثيرينَ مِن المرضَى يداوونَ فلايبرءون، فقالَ: إنَّما ذلك لفقدِ العلمِ بحقيقةِ المداواةِ، لا لفقدِ الدواءِ، وهذا واضحٌ . واللهُ أعلمُ .”أ.ه
فالأمراضُ المزمنةُ والأمراضُ التي لم يستكشفْ الأطباءُ لها علاجًا حتى الآن، ليس نقصًا في الدواءِ أو خاماتِه وإنّما هو عدمُ وصولِ العلمِ الحديثِ إلى استكشافِ هذه الأدويةِ، وهذا ما أشارَ إليهِ الإمامُ النوويُّ رحمَهُ اللهُ.
فالأمرُ بالتداوِي مطلوبٌ، وكلُّ داءٍ لهُ دواءٌ إلّا الهرمَ والموتَ
ويحضرنِي في ذلك قصةٌ لأميرِ المؤمنينَ هارونِ الرشيدِ رحمَهُ اللهُ، لما مَرِضَ مَرَضَ الموتِ واشتدَّ بهِ مرضُهُ الذي ماتَ بهِ
عُرضَ بولُهُ على الطبيبِ وهو لا يدرِي أنَّهُ للرشيدِ. فقالَ الطبيبُ:
إنَّ صاحبَ هذا البولِ ميئوسٌ منهُ. وبلغَ ذلك الرشيدُ فأنشدَ وهو في المرضِ:
تابع / خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الصحة الإنجابية بين حق الوالدين وحق الطفل
إنَّ الطــــــــبيبَ لهُ علمٌ يــــدلُّ بهِ****** مـــــادامَ في أجـــــلِ الإنسانِ تأخيرُ
حتى إذا ما انقضَى أيامُ مهلتِه***** حارَ الطبيبُ وخانتْهُ العقاقيرُ
فالطبيبُ والدواءُ ينفعُ مادامَ في أجلِ الإنسانِ متسعٌ، أمَّا حين يأتِي الأجلُ فلا يملكُ أطباءُ العالمِ كلِّه مِن الأمرِ شيئًا !!! وإذا كان اللهُ أمرَنَا بالتداوِي والأخذِ بالأسبابِ فعلينَا أنْ نذهبَ إلى أهلِ الذكرِ المتخصصينَ في ذلك وهمُ الأطباءُ، قالَ تعالَى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43)؛ لأنَّ التشخيصَ الدقيقَ للمرضِ ووضعِ العلاجِ الناجحِ لهُ يكونُ سببًا لمماثلةِ الشفاءِ، والعكس!! وهذا هو المرادُ مِن قولِهِ ﷺ:
” فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.” وبمفهومِ المخالفةِ: إذا لم يصبْ دواءٌ الداءَ لم يبرأْ؛ وذلك لأنَّ التشخيصَ والعلاجَ جاءَ في غيرِ موضعِه، فهو لم يتماثلْ الشفاءَ ولربَّما ازدادَ مرضًا وهلاكًا !!
ويحضرنِي في ذلك قصةُ الصحابِي الذي ماتَ بجرحِه حينمَا أفتاهُ الصحابةُ بالاغتسالِ!
فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ – أَوْ» يَعْصِبَ «شَكَّ مُوسَى – َعلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ».(أبوداود والبيهقي بسند حسن)؛ فلمَّا جاءَ التشخيصُ خطأً أدَّى ذلك إلى هلاكِ الرجلِ وموتِه!! فلابّدَّ مِن الرجوعِ إلى أهلِ الذكرِ والتخصصِ في كلِّ مجالٍ، وهكذا اهتمَّ الإسلامُ بصحةِ الإنسانِ والحفاظِ عليهَا .
ثانيًا: تنظيمُ النسلِ وأثرُهُ في الصحةِ الإنجابيةِ
مِن أهمِّ القضايا التي عنيَ الإسلامُ بهَا عنايةً كبيرةً وأولاهَا اهتمامًا بالغًا ( قضيةُ تنظيمِ النسلِ ) .
وتنظيمُ النسلِ: هو قيامُ الزوجينِ – بالتراضِي بينهمَا – باستعمالِ وسائلَ معروفةٍ ومشروعةٍ
لا يُرادُ مِن استعمالِهَا إحداثُ العقمِ أو القضاءُ على وظيفةِ جهازِ التناسلِ، بل يُرادُ بذلك الوقوفُ عن الحملِ فترةً مِن الزمنِ، لمصلحةٍ ما يراها الزوجان، أو مَن يثقانِ بهِ مِن أهلِ الخبرةِ.
والسببُ الباعثُ على تنظيمِ الحملِ هو مراعاةُ حالِ الأسرةِ وشؤونِهَا، مِن صحةٍ، أو قدرةٍ على الخدمةِ، أو غيرِ ذلك مِن ظروفِ الحياةِ المختلفةِ، مع مراعاةِ الإبقاءِ على استعدادِ جهازِ التناسلِ للقيامِ بوظيفتِهِ.
وتنظيمُ النسلِ وردَ عن صحابةِ النبيِّ ﷺ عن طريقِ وسيلةِ العزلِ، فعَنْ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه قال:
” كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ فَلَمْ يَنْهَنَا “.( متفق عليه ).
تابع / خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الصحة الإنجابية بين حق الوالدين وحق الطفل
فقد أخبرَ جابرٌ رضي اللهُ عنه أنَّ الصحابةَ كانوا يعزلونَ زمنَ نزولِ الوحيِ، فلو لم يكنْ جائزًا لمَا أقرَّهُم عليهِ.
وهناك وسائلُ طبيةٌ حديثةٌ لتنظيمِ النسلِ بديلةٌ عن العزلِ؛ وهي بمثابةِ الأخذِ بالأسبابِ مع التوكلِ على اللهِ.
أمَّا ما يفعلُهُ العوامُّ مِن عدمِ تنظيمِ النسلِ، وأنَّ المرأةَ تحملُ بعدَ بضعةِ أشهرٍ مِن ولادتِهَا، فهو اعتداءٌ على الحملِ والرضيعِ معًا، وقد سمَّى النبيُّ ﷺ اللبنَ في حالةِ الحملِ لبنَ الْغِيلَةِ؛ لما يترتبُ عليهِ مِن حملٍ يفسدُ اللبنَ ويضعفُ الولدَ، وإنّما سمّاهُ غِيلَةً؛ لأنَّه جنايةٌ خفيةٌ على الرضيعِ، فأشبهَ القتلَ سرًّا.
ونتيجةٌ لعدمِ تنظيمِ النسلِ، يحدثُ ضعفٌ شديدٌ للمرأةِ والأولادِ معًا، فضلًا عن عجزِ الأبوينِ معًا عن القيامِ بحقوقِ الأولادِ كاملةً في التربيةِ والتعليمِ والتنشئةِ الصحيةِ، ممّا يخرجُ جيلًا هشًّا ضعيفًا لا يقوىَ على متطلباتِ الحياةِ ومواجهةِ الصعابِ، وهنا جاءتْ السنةُ النبويةُ ترشدُنَا إلى الحذرِ مِن الوقوعِ في هذا الوهنِ والضعفِ، فعَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: « يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ:
وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ؛ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ ؛ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» . ( أحمد وأبو داود بسند صحيح ) . وغثاءُ السيلِ: ” ما يحملهُ السَّيلُ مِن زَبَدٍ ووَسَخٍ، شبَّهَهُم بهِ لقلَّةِ شجاعتِهِم ودناءةِ قدرِهِم “. ( عون المعبود في شرح سنن أبي داوود ) .
فالإسلامُ دعانَا إلى الموازنةِ والتنظيمِ في عمليةِ الإنجابِ، وكلُّ عصرٍ ومصرٍ لهُ ظروفُهُ وأحوالُهُ وملابساتُهُ، والعلةُ تدورُ مع المعلولِ وجودًا وعدمًا، والقلةُ القويةُ خيرٌ مِن الكثرةِ الضعيفةِ، والإنسانُ يأثمُ على إضاعةِ مستقبلِ الأولادِ وعدمِ القيامِ على أمرِهِم ورعايتِهِم، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ :” كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ ” ( أبوداود والحاكم وصححه ) .
فكثرةُ العيالِ مع عجزِ الإنسانِ عن القيامِ بواجبِهِ نحوهُم هو جَهدُ البلاءِ الذي تعوّذَ منهُ نبيّكُم ﷺ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ” تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ؛ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ؛ وَسُوءِ الْقَضَاءِ؛ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ”. (متفق عليه).
” قال ابنُ بطالٍ: جهدُ البلاءِ كلُّ ما أصابَ المرءُ مِن شدةٍ ومشقةٍ وما لا طاقةَ لهُ بحملهِ ولا يقدرُ على دفعِهِ.
وقِيلَ: المرادُ بجَهدِ البلاءِ قلةُ المالِ وكثرةُ العيالِ كذا جاءَ عن ابنِ عمرَ”. (فتح الباري وشرح ابن بطال).
وهكذا جاءتْ نصوصُ القرآنِ والسنةِ وأقوالِ سلفِ الأمةِ بالاهتمامِ بقضيةِ تنظيمِ النسلِ والصحةِ الإنجابيةِ.
ثالثًا: تأملاتٌ قرآنيةٌ في آياتِ الصحةِ الإنجابيةِ
لقد اهتمَّ القرآنُ الكريمُ اهتمامًا كبيرًا بأمرِ الصحةِ الإنجابيةِ مراعاةً لحقوقِ الأمهاتِ والأطفالِ على السواءِ، وحرصًا على صحتِهِم وسلامتِهِم مِن الضعفِ والأمراضِ. فقد حدّدَ القرآنُ الكريمُ مدةَ الرضاعةِ للطفلِ فقالَ تعالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}. (البقرة:233). يقولُ الإمامُ الشوكاني:
” أي ذلك لمَن أرادَ أنْ يتمَّ الرضاعةَ، وفيهِ دليلٌ على أنَّ إرضاعَ الحولينِ ليسَ حتمًا، بل هو التمامُ، ويجوزُ الاقتصارُ على ما دونِه”.(فيض القدير). وآيةُ الأحقافِ جمعتْ بينَ مدةِ الرضاعةِ ومدةِ الفطامِ. قالَ تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}.(الأحقاف: 15). فآيةُ الأحقافِ ذكرتْ أقلَّ مدةِ الحملِ ولم تذكرْ غالبَهُ؛ لأنَّ غالبَهُ أمرٌ معروفٌ لا يحتاجُ إلى ذكرٍ، وفي ذكرِ أقلِّ مدةِ الحملِ فائدةٌ عظيمةٌ بحيثُ يُعلَمُ حكمُ المولودِ بعدَ ستةِ أشهرٍ مِن الزواجِ، فإنَّهُ للزوجِ صاحبِ الفراشِ، كما في قصةِ عليٍّ رضي اللهُ عنه.
فعَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رُفِعَ إِلَى عُمَرَ امْرَأَةٌ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَرْجُمَهَا فَجَاءَتْ أُخْتَهَا إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ عُمَرَ يَرْجُمُ أُخْتِي، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لَهَا عُذْرًا لِمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: «إِنَّ لَهَا عُذْرًا»، فَكَبَّرَتْ تَكْبِيرَةً سَمِعَهَا عُمَرُ مِنْ عِنْدِهِ، فَانْطَلَقَتْ إِلَى عُمَرَ فَقَالَتْ: إِنَّ عَلِيًّا زَعَمَ أَنَّ لِأُخْتِي عُذْرًا، فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى عَلِيٍّ: مَا عُذْرُهَا؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] وَقَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] فَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالْفَصْلُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا. قَالَ: فَخَلَّى عُمَرُ سَبِيلَهَا قَالَ: ثُمَّ إِنَّهَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ . (مصنف عبدالرزاق). ويُحكَى هذا الخبرُ عن عثمانَ أيضًا.
ولقد أثبتتْ البحوثُ العلميةُ والصحيةُ أنّ فترةَ عامينِ ضروريةٌ لينمُو الطفلُ نموًّا طبيعيًّا سليمًا مِن الوجهتينِ الصحيةِ والنفسيةِ
لقولِه تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}
وذلك لأنَّ الأمَّ مع رضاعةِ وليدِهَا بالحليبِ ترضعُهُ العطفَ والحنانَ الذي لا يملكهُ غيرهَا. كما قالَ الشاعرُ:
والأُمُّ أَولَى الوالـــدَيْن بوِلْــدِهَا…………..تَسقيه مِن دمِ قلبِهَا الخفّاقِ
الأمُّ مدرسةُ البـنينَ وحسبُهُم…………..أنْ يغتدُوا مِن ثديهَا المهراقِ
هي تُـــــــرضعُ الأجسامَ والأرواحَ ما………….في صدرِهَا مِن صــــــحةٍ وخَلاقِ
فإذا هي انحّطتْ فنشءٌ خــــــاملٌ…………. وإذا ارتقتْ بشِّرْ بنشءٍ راقِي
الطـــــــفلُ مثلُ الشمعِ لَدْنٌ فاْطبعِي…………..يا أُمُّ فيه محاسنَ الأّخلاق
ومِن هنا كانت حكمةُ اللهِ تعالى في إرجاعِ موسَى إلى أُمِّهِ
كي تقرَّ عينُهَا ولا تحزنَ، قالَ تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ}( القصص: 13)
ويرى العلماءُ أنَّ الطفلَ يحسُّ بالأمنِ كُلّمَا ألصقتْهُ الأمُّ إلى صدرِهَا، قال تعالى:
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }(طه: 39).
وهكذا أكدتْ نصوصُ القرآنِ الكريمِ على عمليةِ تنظيمِ فتراتِ الحملِ؛
حفاظًا على حقوقِ وسلامةِ وصحةِ الوالدينِ والطفلِ على السواء،
حتى يعيشَ الجميعُ في صحةٍ وقوةٍ وعافيةٍ ورغدٍ مِن العيشِ والسلمِ والأمانِ.
……….
نسألُ اللهَ تعالى أنْ يديمَ علينَا نعمةَ الصحةِ والعافيةِ
وأنْ يحفظَ مصرنَا مِن كلِّ مكروهٍ وسوءٍ.