يوفر لكم موقع “من العاصمة الإخباري” خطبة الجمعة للدكتور محمد محرز اليوم 16 جمادي الآخرة 1445 هـ، الموافق 29 ديسمبر 2023م، بعنوان ” جريمة الاعتداء على المال العام والملك العام والحق العام “.
عناصر خطبة الجمعة اليوم للدكتور محمد حرز
أولًا: استباحةُ المالِ العامِّ جرمٌ خطيرٌ.
ثانيًا: مِن صورِ التعدِّي على المالِ العامِّ.
ثالثًا وأخيرًا: نماذجُ مشرفةٌ للمحافظةِ على المالِ العامِّ.
خطبة الجمعة اليوم للدكتور محمد حرز
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ وَنَهَى عَنِ الْإفْسَادِ، نَحْمَدُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِنْعَامِهِ،
الحمدُ للهِ القائلِ في محكمِ التنزيلِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) النِّسَاءِ: 29،وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، وَأشهدُ أَنَّ سيدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ القائلُ ﷺ-:
تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ )، فاللهُمَّ صلِّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ المختارِ وعلى آلهِ وصحبهِ الأطهارِ وسلمْ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين. أمَّا بعدُ …..فأوصيكُم ونفسِي أيُّها الأخيارُ بتقوى العزيزِ الغفارِ{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (سورة أل عمران :102).
عبادَ الله : (جريمةُ الاعتداءِ على المالِ العامِّ والملكِ العامِّ)،عنوانُ وزارتِنَا وعنوانُ خطبتِنَا .
أيُّها السادةُ: بدايةً ما أحوجنَا في هذه الدقائقِ المعدودةِ أنْ يكونَ حديثُنَا عن جريمةِ الاعتداءِ على المالِ العامِّ والملكِ العامِّ، وخاصةً ونحنُ نعيشُ زمانًا استباحَ فيهِ الكثيرُ مِن الناسِ إلّا ما رحمَ اللهُ جلَّ وعلَا المالَ العامَّ والملكَ العامَّ والحقَّ العامَّ بصورةٍ مخزيةٍ ، ظنًا منهم أنَّ هذه شطارةٌ وذكاءٌ، وأنَّهُ ليس لهذا المالِ صاحبٌ وليس عليه رقيبٌ، ونسى المسكينُ أنَّ استباحةَ المالِ العامِّ أخطرُ بكثيرٍ مِن استباحةِ المالِ الخاصِّ، المالُ الخاصُّ صاحبُهُ واحدٌ يمكنُ الاعتذارُ منهُ، أمَّا المالُ العامُّ ملكٌ للجميعِ والاعتذارُ منهُ صعبٌ للغايةِ فنفعُهُ يعودُ على كلِّ الناسِ، ونسَى المسكينُ أنَّ اللهَ مطلعٌ عليهِ ويراهُ، وللهِ درُّ القائلِ:
إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فــلا *** تقلْ خلوتُ ولكنْ قُل علىَّ رقيبُ
ولا تحسبنّ اللهَ يغفلُ ســـاعةً *** ولا أنَّ ما يخفَى عليـــه يغيبُ
وخاصةً ونحنُ نعيشُ زمانًا انتشرَ فيهِ التعدِّي على المالِ العامِّ بصورةٍ مخزيةٍ يملئُ الرجلُ بطنَهُ مِن الحرامِ، بل ربَّمَا ربَّى الرجلُ أولادَهُ على الحرامِ، ولا يفكرُ في الموتِ وشدتِهِ، ولا في القبرِ وضمتِه، ولا في الحسابِ ودقتِهِ، ولا في الصراطِ وحدتِه، ولا في النارِ ولا في الأهوالِ والأغلالِ ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا باللهِ . وصدقَ النبيُّ ﷺ إذ يقولُ كما في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالى الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ)) رواه البخاري
أولًا: استباحةُ المالِ العامِّ جرمٌ خطيرٌ
أيُّها السادة: لقَدْ دَعَا الإِسْلَامُ إِلَى وُجُوبِ المُحَافَظَةِ عَلَى الْمَالِ، وجَعلهُ منْ الضَّرُورِيَّاتِ الخَمْسِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلْحَيَاةِ بِدُونِ حِفظِها، وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالنَّسْلِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ وزاد البعض الوطن، فَحَرَّمَ الرِّشْوَةَ، وَجَرَّمَ السَّرِقَةَ، وَنَهَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَنَهَى عَنِ الْغَرَرِ وَالْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ وَالْكَذِبِ وَالتَّزْوِيرِ وَسَائِرِ وُجُوهِ أَكْلِ الحَرَام، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا»، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»؛ [أَخْرَجَهُ مسلم].والمحافظةُ على المالِ العامِّ والحقِّ العامِّ مطلبٌ شرعيٌّ، وواجبٌ وطنيٌّ، وعملٌ إنسانيٌّ، ومقصدٌ مِن مقاصدِ الشريعةِ الإسلاميةِ، الكلُّ مطالبٌ بهِ، والكلُّ محاسبٌ عليهِ بينَ يدى اللهِ لمَن فرطَ وأهملَ واستباحَ، قالَ ربُّنَا:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ الأنفال: 27
ومِن أعظمِ الأماناتِ: حفظُ المالِ العامِّ، وخطورةُ الاعتداءِ عليهِ. والمالُ العامُّ: هو كلُّ مالٍ تملكُهُ الدولةُ ومؤسساتُهَا سواءٌ كان المالُ نقدًا أو عقارًا أو منقولًا أو منفعةً، فكلُّ ذلك مِمَّا تجبُ صيانتُهُ، والمحافظةُ عليهِ، فالمالُ العامُّ أعظمُ خطرًا مِن المالِ الخاصِّ؛ ذلك لأنَّ المالَ العامَّ ملكُ الأمةِ وهو ما اصطلحَ الناسُ على تسميتِه بمالِ الدولةِ.
والمالُ العامُّ ركيزةٌ لنهضةِ الشعوبِ، واستباحةُ المالِ العامِّ داءٌ اجتماعيٌّ خطيرٌ
ووباءٌ خُلقيٌّ كبيرٌ ما فشَا في أمةٍ إلّا كان نذيرًا لهلاكِهَا، و ما دبَّ في أسرةٍ إلَّا كان سببًا لفنائِهَا، فهو مصدرٌ لكلِّ عداءٍ وينبوعُ كلِّ شرٍ وتعاسةٍ ، والفسادُ آفةٌ مِن آفاتِ الإنسانِ، مدخلٌ كبيرٌ للشيطانِ ،مدمرٌ للقلبِ والأركانِ ،يفرقُ بين الأحبةِ والإخوةِ، يُحرَمُ صاحبُهُ الأمنَ والأمانَ ،ويدخلُه النيرانَ ،ويبعدُه عن الجنانِ ،فالبعدُ عنه خيرٌ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ. واستباحةُ المالِ العامِّ والملكِ العامِّ ظاهرةٌ سلبيةٌ مدمرةٌ للأفرادِ والدولِ ويُعَدُّ طمعُ النفسِ وغيابُ الوعيِ وضعفُ الوازعِ الدينيِّ، وعدمُ مراقبةِ المولىَ جلّ وعلا مِن أهمِّ أسبابِ استباحةِ المالِ العامِّ والملكِ العامِّ، واستباحةُ المالِ العامِّ والملكِ العامِّ داءٌ يقتلُ الطموحَ، ويدمرُ قيمَ المجتمعِ، ويعَدُّ خطرًا مباشرًا على الوطنِ، ويقفُ عقبةً في سبلِ البناءِ والتنميةِ، يبددُ المواردَ، ويهدرُ الطاقاتِ ولا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ.
لذا أمرَنَا الإسلامُ ونبيُّ الإسلامِ ﷺ بالمحافظةِ على المالِ الخاصِّ والمالِ العامِّ، قالَ تعالَى مُحذِّرًا عبادَهُ:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ (سورة النساء : 29)
وجعلَ الإسلامُ المحافظةَ على المالِ العامِّ والخاصِّ مِن الضرورياتِ الخمسِ، وَحرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا، وكما أنَّ الإسلامَ حرَّمَ الاعتداءَ على المالِ الخاصِّ حرّمَ الاعتداءَ على المالِ العامِّ، كما في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:( كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) رواه مسلم، ووقفَ في خطبةِ الوداعِ قائلًا كما في صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ أَبي بكْرةَ رضى اللهُ عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ :
إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأعْراضَكُم عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)، والقليلُ والكثيرُ منَ المالِ العامِّ خطيرٌ على دينِ الإنسانِ، وانتهاكُهُ أمرٌ يوجبُ لهُ العقوبةَ في الدَّنيا والآخرةِ، فعندما أرسلَ أو اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْأُتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي قَالَ:“ فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا)متفق عليه).
فكما أنَّ الإسلامَ جعلَ لمالِ الإنسانِ الخاصِّ حرمةً وقداسةً،
جعلَ للمالِ العامِّ حرمةً وقداسةً
بل أعلَى مِن شأنِ المالِ العامِّ والاهتمامِ بهِ
فجعلَ الاعتداءَ عليهِ أشدَّ حرمةً مِن المالِ الخاصِّ
ولو كان شيئًا يسيرًا
فقد روى مسلمٌ في صحيحِهِ مِن حديثِ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ رضى اللهُ عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ:
((مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا إبرة) فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا – خيانةً وسرقةً – يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
واستباحةُ المالِ العامِّ يعمِي البصيرةَ، ويضعفُ البدنَ
ويوهنُ الدينَ
ويظلمُ القلبَ
ويقيدُ الجوارحَ عن طاعةِ اللهِ
لذا قَالَ ابْنُ أَسْبَاطٍ :
إذَا تَعَبَّدَ الشَّابُّ قَالَ الشَّيْطَانُ لِأَعْوَانِهِ : اُنْظُرُوا مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ ، فَإِنْ كَانَ مَطْعَمُهُ مَطْعَمَ سُوءٍ يَقُولُ دَعُوهُ يَتْعَبُ وَيَجْتَهِدُ فَقَدْ كَفَاكُمْ نَفْسَهُ أيْ لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ مَعَ أَكْلِهِ الْحَرَامَ لَا يَنْفَعُهُ وعمله هباءً منثورًا ,لذا كان عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةً مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.بل قالَ أحدُ الصالحينَ: (لَوْ قُمْت قِيَامَ السَّارِيَةِ مَا نَفَعَك حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَدْخُلُ فِي بَطْنِك من الحلال أم من الحرام).
واستباحةُ المالِ العامِّ غلولٌ يا سادةٌ
عقوبةُ الغلولِ كما قال اللهُ في كتابهِ العَظِيمِ:
﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ آل عمران: 161.
وأمَّا عقوبتُهُ في القبرِ ففي «الصَّحِيحَيْنِ» أنَّ النبيَّ ﷺ أَخْبَرَ عن الرَّجُلِ الذي غَلَّ شَمْلَةً يَوْمَ خَيْبَر، فَقَالَ:
«والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَر مِن المَغَانِمِ قَبْلَ المَقَاسِمِ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ نَارًا». والشَّمْلةُ: تَلْفِيعَةٌ، أو هي كِسَاءٌ يُمْكِنُ أنْ يُحِيطَ به المَرْءُ بَدَنَهُ. سلّمْ يا ربِّ سلّمْ بل جعلَ النبيُّ ﷺ استباحةَ المالِ العامِّ سببٌ مِن أسبابِ دخولِ النارِ، يا ربِّ سلّمْ، ففي صحيحِ البخاري مِن حديثِ خولةَ بنتِ قيسٍ الأنصاريةِ، قالتْ سَمِعْتُ النبيَّ ﷺ يقولُ: ((إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ)) قال ابنُ حَجَر: (قولُهُ.. «في مالِ اللهِ بغيرِ حَقٍّ» أيْ: يَتصَرَّفُونَ في مالِ المسلمينَ بالباطِلِ( ، اللهَ اللهَ في المالِ العامِّ، اللهَ اللهَ في الحقِّ العامِّ، اللهَ اللهَ في المحافظةِ على المالِ، والمحافظةُ على المالِ العامِّ تكونُ:
بتربيةِ النفسِ على مراقبةِ اللهِ في السرِّ والعلنِ والخشيةِ منهُ، ففي الصحيحينِ قالَ النبيُّ ﷺ :
لمَّا سُئِلَ عن الإحسانِ فقالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ )، وأنْ تعتقدَ بأنَّ اللهَ سيُجازِيكَ ويُحاسبُكَ على ما فعلتَ في وظيفتِكَ وعلى ما فعلتَ في المالِ العامِّ، وأنْ تتوبَ إلى اللهِ مِن أيِّ تقصيرٍ أو خيانةٍ أو اعتداءٍ على المالِ العامٍّ، وأنْ تُبرئَ ذمَّتَكَ بإرجاعِ ما أخذتَهُ بالباطلِ للحديثِ الذي رواه البخاريُّ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ:
( مَن كانتْ لهُ مَظْلَمَةٌ لأخيهِ من عِرْضِهِ أوْ شيءٍ، فلْيَتَحَلَّلْهُ منهُ اليومَ، قبلَ أنْ لا يكونَ دينارٌ ولا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ لهُ عَمَلٌ صالحٌ أُخِذَ منهُ بقدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وإنْ لمْ تكُنْ لهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ من سَيِّئاتِ صاحبهِ فحُمِلَ عليهِ) .وليتذكرْ حديثَ أبي برزةَ الأسلمِي رضى اللهُ عنه قال، قال رسولُ اللهِ ﷺ: ” لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ مَالِهِ فِيمَا أَنْفَقَهُ وَمِنْ أَيْنَ كَسَبَهُ، وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟
فانتبهْ فالمالُ ستسألُ عنهُ سؤالينِ يومَ القيامةِ يومَ الحسرةِ والندامةِ
يومَ تقفُ بينَ يدَي اللهِ حافيًا عاريًا لا حولَ لكَ ولا قوةَ مِن أينَ أكتسبتَهُ؟ وفيمَا أنفقتَهُ ؟
أكتسبتَهُ مِن الحلالِ
وأنفقتَهُ في الحلالِ أم في الحرامِ؟
وليعلمْ أنَّ المالَ الحرامَ يُذهِبُ المالَ الحلالَ ويبقَي الوزرُ والعارُ وغضبُ الجبارِ ….. وللهِ درُّ القائلِ:
جمعَ الحرامَ على الحلالِ ليكثرَهُ ***دخلَ الحرامُ على الحلالِ فبعثرَهُ
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة للدكتور محمد حرز بعنوان : جريمة الاعتداء على المال العام والملك العام والحق العام
ثانيـــًا: مِن صورِ التعدِّي على المالِ العامِّ
أيُّها السادةُ: هناكَ صورٌ كثيرةٌ وألوانٌ عديدةٌ في التعدِّي على المالِ العامِّ منها على سبيلِ المثالِ لا الحصر:
سرقةُ المرافقِ العامةِ بحجَّةِ أنَّ الدولةَ لا تُعطِي المواطنَ حقَّهُ كاملًا، فيزينُ لهُ الشيطانُ سوءَ عملِهِ ويحللُ لهُ السرقةَ، عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه أنَّ النبيَّ ﷺ قال: (لعن اللهُ السارقَ يسرقُ البيضةَ فتُقطَعُ يدُه ويسرقُ الحبلَ فتُقطَعُ يدُه) وعن ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما عن النبيِّ ﷺ قال: ( لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهو مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهو مُؤْمِنٌ) واستعمالُ الكمبيوترِ والتلفونِ الخاصِّ بالعملِ لأغراضٍ شخصيَّةٍ لا تخصُّ العملَ.
ومِن صورِ التعدِّي على المالِ العامِّ : عدمُ إتقانِ العملِ، وإضاعةُ الوقتِ، والتربُّحُ مِن الوظيفةِ وإهمالُ مقدراتِ الدولةِ وإساءةُ التعاملِ معَها. ومنها :تخريبُ وتدميرُ المنشآتِ العامّةِ: فإنَّ مَن يقومُ بذلكَ مِن حرقِ المنشآتِ العامّةِ وإتلافِ الأشجارِ والحدائقِ يعدُّ مِن صورِ التعدِّي على المالِ العامِّ، وقد توعدَ اللهُ هؤلاءِ بقولِهِ جلَّ وعلَا :
﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ المائدة: 33. ومنها: الاختلاسُ والرشوةُ والسرقةُ والنصبُ والاحتيالُ وجعلهَا سُلمًا للغنَى، والرشوةُ مِن كبائرِ الذنوبِ، قال اللهُ تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (البقرة: 188)
تابع خطبة الجمعة القادمة للدكتور محمد حرز بعنوان : جريمة الاعتداء على المال العام والملك العام والحق العام
ومِن صورِ التعدِّي على المالِ العامِّ: عدمُ إتقانِ العاملِ لعملِهِ، وإضاعةُ الوقتِ
وذلك مِن ضعفِ الإيمانِ باللهِ تعالَى وعدمِ مراقبتِه، واعلمُوا أنَّ الإتقانَ ثمرةٌ مِن ثمراتِ المراقبةِ للهِ تعالَى، وأنَّ ما نقومُ بهِ مِن عملٍ فإنَّ اللهَ تعالَى مطلعٌ عليهِ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر، فالمسلمُ الحقُّ هو الذي لا يراقبُ مديرَهُ ولا رئيسَهُ في العملِ، بل يراقبُ اللهَ تعالَى، وتلك هي المراقبةُ الذاتيةُ: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ (يونس: 61).
ومِن صورِ التعدِّي على المالِ العامِّ: الاعتداءُ على أملاكِ الدولةِ والأوقافِ، فعن عَائِشَةَ -رضي اللهُ عنها- عن رَسُولِ اللَّه قال:
«مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ).
ومِن صورِ التعدِّي على المالِ العامِّ:
الغشُّ وعدمُ الوفاءِ بالشروطِ في تنفيذِ العقودِ، والتساهل في الرَّقابةِ عليهَا، قال ﷺ:
(مَنْ حَمَلَ علينا السِّلاحَ فليسَ مِنَّا، ومَنْ غَشَّنا فليسَ مِنَّا)) رواه مسلم.
ومِن صورِ التعدِّي على المالِ العامِّ: الاعتداءُ على الطرقاتِ والمنشئاتِ العامّةِ والترعِ وأملاكِ الدولةِ:
الطريقُ مرفقٌ عامٌّ لا يختصُّ بهِ أحدٌ، ولا يستأثرُ بهِ شخصٌ، وإنّمَا هو لتحقيقِ الضرورياتِ وقضاءِ الحوائجِ وتحصيلِ المنافعِ، ولمَّا كان الأمرُ كذلك فقد وضعَ الشرعُ القواعدَ والأسسَ التي نظمَ بهَا أحكامَ الطريقِ، ومِن ذلك: اعتبارُ المحافظةِ على الطريقِ شعبةٌ مِن شعبِ الإيمانِ، وأنَّ التعدِّي عليهَا منكرٌ محرمٌ مرفوضٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ – أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ – شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)، وعنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
(مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ).
ومِن صورِ التعدِّي على المالِ العامِّ: أنْ يتربحَ الموظفُ مِن الوظيفةِ واستغلالهَا لأغراضِهِ الأساسيةِ
وهذا أيضًا مِن خيانةِ الأمانةِ وإضاعةٍ للمالِ العامِّ. فهذا عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ – رحمَهُ اللهُ – كيف كان يضيءُ شمعةً مِن مالِ المسلمينَ لينظرَ في ضوئِهَا في شئونِهِم، فإذا سُئِلَ عن أحوالِهِ الخاصةِ يُطفئُ الشمعةَ ويُضيءُ غيرَهَا، ويقولُ: كنتُ أضيءُ شمعةً مِن مالِ المسلمينَ وأنَا في مصالحِهِم، أمَا وأنتَ تريدُ أنْ تسألَ عن أحوالِي، فقد أضأتُ شمعةً مِن مالِي الخاص.
ومِن صورِ التعدِّي على المالِ العامِّ: هدايَا العمالِ لحديثِ النبيِّ المختارِ ﷺ قَالَ:
(هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ)رواه أحمدُ. فهناك الكثيرُ مِن الموظفينَ لا يقضونَ حوائجَ الناسِ إلّا ما رحمَ اللهُ إلّا بعدَ أنْ يأخذَ أجرًا، ويطلقونَ على ذلك أسماءَ خداعةً كالتدخينِ أو هديةً أو بقشيشًا، وكلُّ هذه مسمياتٌ تنصبُّ في إناءٍ واحدٍ، وهو أكلُ أموالِ الناسِ بالباطلِ، واللهُ يقولُ في كتابِه: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) سورة النساء آية 29؛ لأنَّ ظاهرَ الأمرِ: الرضا، وباطنَهُ: العذابُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا باللهِ.
ومِن صورِ التعدِّي على المالِ العامِّ ما يحدثُ في بعضِ المؤسساتِ:
أنْ يقومَ الطبيبُ بوصْفِ أدويةٍ لا يحتاجُ إليهَا المريضُ مِن حيثُ النوعيَّةِ والكميَّةِ، وإعطاءُ هذه الأدويةِ للصيدليةِ المتعاملةِ بالمسروقاتِ، فتُباعُ بسعرٍ أقلٍّ مِن سعرِ التكلفةِ لدواءٍ مُشْتَرَى بشكلٍ رَسْمي، ومدوَّنُ عليهِ التسعيرة (لاصق النقابة)، ويقومُ الصيدلانيُّ بتغييرِ كميَّةِ الأدويةِ المكتوبةِ في الوصفةِ بطُرقٍ غيرِ مكشوفةٍ، كأنْ يكونَ مكتوبٌ في الوصفةِ علبةً واحدةً، فيغيِّرُ الصيدليُّ الرقْمَ إلى علبتينِ، ويأخذُ العلبةَ الأخرى له.وهذا مِن النصبِ والاحتيالِ على سرقةِ حقوقِ الأخرين والتعدِّي على المالِ العامِّ بدونِ وجهِ حقٍّ. فالاعتِدَاءُ عَلَى المالِ العَامِّ ذنبٌ عظيمٌ، وجرمٌ كبيرٌ، وخزيٌ وعارٌ ،وخرابٌ ودمارٌ، والاعتداءُ على المالِ العامِّ والملكِ العامِّ والحقِّ العامِّ إفسادٌ في الأرضِ بعدَ إصلاحِهَا، واللهُ يقولُ: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) البقرة:205
لذا حذَّرَنَا جلَّ وعلَا مِن الإفسادِ في الأرضِ بعدَ إصلاحِهَا، قالَ اللهُ تعالى :
﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة:60]، وقالَ اللهُ تعالى : ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾(الأعراف:56 ) ونهانَا عن اتباعِ كلِّ مفسدٍ ضالٍّ وطاعتِهِ، قالَ اللهُ تعالى : ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف:142] ، وقال جلّ وعلا: ﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ*الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [الشعراء:151-152.
فالإفسادُ في الأرضِ شِيمَةُ المجرِمين، وطبيعةُ المخرِّبين، وعملُ المفسِدين، ففيهِ ضَياعٌ للأملاكِ، وضِيقٌ في الأرزاقِ، وسُقُوطٌ للأخلاقِ، إنَّهُ إخفاقٌ فوقَ إخفاقٍ، يُحوِّلُ المجتمعَ إلى غابَةٍ يأكُلُ القويُّ فيه الضعيفَ، وينقضُّ الكبيرُ على الصغيرِ، وينتَقِم الغنيُّ منَ الفقيرِ، فيزدادُ الغنيُّ غنًى، ويزدادُ الفقيرُ فقرًا، ويَقوَى القويُّ على قوَّتِه، ويضعُفُ الضعيفُ على ضعفهِ ولا حول ولا قوة إلا بالله ولله در القائل.
إذا لم تخشَ عاقبةَ الليالِي *** ولم تستحِ فاصنعْ ما تشاءُ
فلا واللهِ ما في العيشِ خيرٌ *** ولا الدنيا إذا انعدمَ الحياءُ
أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لِي ولكُم
الخطبةُ الثانية الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلَّا لهُ وبسمِ اللهِ ولا يستعانُ إلَّا بهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………… وبعد
ثالثا: نماذجُ مشرفةٌ للمحافظةِ على المالِ العامِّ
أيُّها السادة: تعالوا بنَا لنتعرفَ في عجالةٍ سريعةٍ على أصحابِ النبيِّ ﷺ والسلفِ الصالحِ كيف كانوا أبعدَ الناسِ عن الحرامِ؟ وكيف لا؟ ولنا في رسولِ اللهِ ﷺ الأسوةُ الحسنةُ، والمثلُ الأعلَى بأبِي هو وأمِّي ﷺ كان يومًا كثيرَ التقلبِ في الفراشِ بجوارِ السيدةِ عائشةَ رضي اللهُ عنها فعَن عَبْدِ الله بْنِ عَمْروٍ ، رَضِيَ الله عَنْهُمَا , أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَصَابَهُ أَرَقٌ مِنَ اللَّيْلِ ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ : يَا رَسُولَ الله ، أَرِقْتَ اللَّيْلَةَ ؟ قَالَ :“ إِنِّي كُنْتُ وَجَدْتُ تَمْرَةً تَحْتَ جَنْبِي فَأَكَلْتُهَا ، وَكَانَ عِنْدَنَا مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ ، فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنْهَا)، رواه أَحْمَدُ
يا ربِّ سلّمْ انتبهْ فالتمرةُ لم تكنْ مِن حرامٍ يا سادةٌ لكنَّ اللهَ حرّمَ على النبيِّ ﷺ أنْ يأكلَ مِن الصدقاتِ فمَا بالكُم وقد امتلأتْ البطونُ مِن الحرامِ ؟ فمَا بالكُم وقد امتلأتْ البطونُ مِن أكلِ حقوقِ البناتِ فمَا بالكُم وقد امتلأتْ البطونُ مِن أكلِ حقوقِ الإخوةِ والأخواتِ؟ فما بالكُم وقد امتلأتْ البطونُ مِن التعدِّي على المالِ الخاصِّ والعامِّ ولا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ .بل انظروا يا سادةٌ إلى فاروقِ الأمةِ وعملاقِ الإسلامِ عمرَ بنِ الخطابِ رضي اللهُ عنهُ شربَ مِن لبنِ إبلِ الصدقةِ غلطًا، فأدخلَ إصبعَهُ وتقيأَ. بل خرجَ يومًا إلى السوقِ في جولةٍ تفتيشيةٍ فيرَى إبلًا سمينةً تمتازُ عن بقيةِ الإبلِ بنموِّهَا وامتلائِهَا، يسألُ عمرُ بنُ الخطابِ: ( إبلُ مَن هذه ؟ فقالوا :
هي إبلُ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ ابنُكَ،
وانتفضَ أميرُ المؤمنين، وكأنَّ القيامةَ قد قامتْ، وقال: عبدَ اللهِ بنَ عمرَ !! بخٍ بخٍ يا ابنَ أميرِ المؤمنين ” (أي الله يعينك ) ، وأرسلَ في طلبِه فورًا ، وأقبلَ عبدُ اللهِ يسعَى ، وحينَ وقفَ بينَ يدَيْ والدِهِ أخذَ عمرُ يفتلُ سبلةَ شاربِهِ، وتلكَ عادتُهُ إذا أهمَّهُ أمرٌ خطيرٌ ، فأحيانًا الإنسانُ يحكُّ رأسَهُ، أو يحرِّكُ ثيابَهُ، كلُّ إنسانٍ لهُ طريقةٌ إذا أمرٌ خطيرٌ وهو يفكِّرُ، فقالَ: ” بخٍ بخٍ يا ابنَ أميرِ المؤمنين، ما هذه الإبلُ يا عبدَ اللهِ ؟ ” فأجابَ : ” إنَّها إبلٌ أمضاءٌ ( يعني هزيلةٌ ) اشتريتُهَا بمالِي ، وبعثتُ بهَا إلى الحِمَى ( أي إلى المرعَى ) أُتاجرُ فيهَا ، وأبتغِي ما يبتغِي المسلمون
فماذا صنعتُ ؟ وأيُّ ذنبٍ ارتكبتُهُ، وأيةُ خطيئةٌ وقعتُ فيهَا ؟ اشتريتُ إبلًا أمضاءً يعني هزيلة، اشتريتُهَا بمالِي ، ومالُه حلالٌ ، وبعثَ بها إلى الحمَى ، أي إلى المرعى لتسمنَ حتى يبيعَهَا فيبتغِي ما يبتغِي المسلمون ، فقال عمرُ متهكمًا تهكُمًا لاذعًا : ” ويقولُ الناسُ حين يرونَهَا : ارعَوْا إبلَ ابنِ أميرِ المؤمنين ، اسقُوا إبلَ ابنِ أميرِ المؤمنين ، وتسمنُ إبلُ ابنِ أميرِ المؤمنين ، فبعْ هذه الإبلَ ، وخذْ رأسَ مالِكَ منها ، واجعلْ الربحَ في بيتِ مالِ المسلمين) . هذا إدراكٌ نادرٌ أنَّ هذا هو ابنُ أميرِ المؤمنين، فلعلَّ الناسَ أعطوهُ فوقَ ما يستحقُّ واستغلَّ منصبَ أبيهِ، ولعلهُم أكرمُوه ، فقال : بعْ هذه الإبلَ ، وخُذْ رأسَ مالِكَ، وردَّ الباقِي لبيتِ مالِ المسلمين.
فمَن يُجارِي أبا حفصٍ وسيرتَهُ ***أو مَن يحاولُ للفاروقِ تشبيهًا
لمَّا اشتهتْ زوجتُهُ الحلوَى قال لها***مِن أينَ لي ثمنُ الحلوَى فأشريهَا
ما زادَ عن قوتِنَا فالمسلمونَ بهِ ***أولَي فقومِي لبيتِ المالِ رديهَا .
كذلك أخلاقُهُ كانتْ وما عُهدَتْ*** بعدَ النبوةِ أخلاقٌ تضاهيهَا
فانتبهْ قبلَ فواتِ الأوانِ وحاسبْ نفسَكَ قبلَ أنْ تُحاسبَ
وزنْ أعمالَكَ قبلَ أنْ توزنَ عليكَ
فلا تأكلْ إلَّا طيبًا ولا تكسبْ إلّا طيبًا ولا تُدخِلْ بيتَكَ إلَّا طيبًا
كما قال أبو الدرداءِ رضي اللهُ عنه: فإذا أردتَ النجاةَ فعليكَ بالحلالِ وإيّاكَ والحرامَ.
فالحلالُ بيّنٌ والحرامُ بيّنٌ
فعن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ )) فيَا مَن كُلّمَا طالَ عمرُهُ زادَ ذنبُهُ، يا مَن كلّمَا أبيضَّ شعرُهُ أسودَّ بالآثامِ قلبُهُ .
شيخٌ كبيرٌ لهُ ذنوبٌ *** تعجزُ عن حملهَا الجبالُ
قد بيضتْ شعرَهُ الليالِي *** وسودتْ قلبَهُ الخطايَا
فتُبْ إلى ربِّكَ يا مَن أكلتَ الحرامَ
واعلمْ أنَّ اللهَ يغفرُ الذنوبَ جميعًا إنَّهُ هو الغفورُ الرحيمُ
فاللهَ اللهَ في التوبةِ والرجوعِ إلى اللهِ والندمِ على ما فرطنَا في جنبِ اللهِ.
دَعْ الْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا *** وَفِي الْعَيْشِ فَلَا تَطْمَعْ
وَلَا تَجْمَعْ مِنْ الْمَالِ *** فَلَا تَدْرِي لِمَنْ تَجْمَعْ
فَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ ***وَسُوءُ الظَّنِّ لَا يَنْفَعْ
فَقِيرٌ كُلُّ ذِي حِرْصٍ ***غَنِيٌّ كُلُّ مَنْ يَقْنَع.