يوفر لكم موقع “من العاصمة الإخباري” خطبة الجمعة للدكتور محمد حرز اليوم 25 شوال 1445 هـ، الموافق 3 مايو 2024م، بعنوان ” أمانة العامل والصانع وإتقانهما”.
عناصر خطبة الجمعة اليوم للدكتور محمد حرز
أولا: الأمانةُ خُلقٌ عظيمٌ مِن أخلاقِ الدينِ.
ثانيا: أمانةُ العاملِ والصانعِ سببٌ للرقِيِّ والازدهارِ.
ثالثا: إياكَ والطمعَ في أجرِ الأجيرِ.
خطبة الجمعة اليوم للدكتور محمد حرز
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ جَزِيلَ الْعَطَايَا وَالْهِبَاتِ، وَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنِ الْمَكْرِ وَالْغَدْرِ وَسَائِرِ الْخِيَانَاتِ، وَأَوْعَدَ عَلَى ذَلِكَ أَلِيمَ الْعَذَابِ وَأَشَدَّ الْعُقُوبَاتِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ، وَأُثْنِي عَلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وليُّ الصالحين، وَأشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وصفيُّهُ من خلقهِ وخليلُهُ، القائلُ كما في حديث فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ) رَوَاهُ أحمدُ، فاللهُمّ صلِّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ المختارِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الأطهارِ الأخيارِ وسلمْ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ.
فأوصيكُم ونفسِي أيُّها الأخيارُ بتقوىَ العزيزِ الغفارِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} الحشر: 18.
عبادَ الله: (أمانةُ العاملِ والصانعِ وجزاؤهُمَا)، عنوانُ وزارتنِا وعنوانُ خطبتِنا.
أولا: الأمانةُ خُلقٌ عظيمٌ مِن أخلاقِ الدينِ
أيُّها السادةُ: الأمانةُ فضيلةٌ مِن أشرفِ الفضائلِ وأعظمِهَا، والعملُ بها شرفٌ وكرامةٌ وتقوَى وصلاحٌ، وإيمانٌ خالصٌ لربِّ الأرضِ والسماواتِ، ورحمةٌ بالخلائقِ أجمعين، بها تستقيمُ موازينُ الحياةِ، وتنتشِرُ بِهَا الثقةُ بينَ الناسِ، والأمانةُ أمرٌ عظيمٌ مِن أوامرِ الدينِ، وخلقٌ كريمٌ مِن أخلاقِ الصالحين، وهي جزءٌ مِن السلوكِ الفاضلِ، وجانبٌ مهمٌّ مِن جوانبِ الإسلامِ، بل هي الإسلامُ كلُّهُ ،ومن عِظَمِ شأنِهَا وجلالِ خطرِهَا، أنْ عرَضَها اللهُ تعالى على أعظمِ مخلوقاتِهِ، وحملَهَا الإنسانُ، فقالَ سبحانَهُ: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ﴾ [الأحزاب: 72]. وكان العربُ يفتخرونَ بالأمانةِ ويعدونَهَا مَكرُمَةً، حتى أنّهُم كانوا يُطلقونَ على النبيِّ ﷺ قبلَ بعثتِهِ لقبَ “الأمينِ”؛ لِمَا اشتُهرَ عنهُ مِن الأمانةِ في القولِ والعملِ والحالِ، فهو عليهِ الصلاةُ والسلامُ خيرُ أمناءِ البشرِ، بشهادةِ أعدائِهِ قريشٍ، فعندمَا هدمَتْ قريشٌ الكعبةَ ليعيدُوا بناءَها، وجمعُوا الحجارَةَ وقامُوا بالبناءِ، وعندمَا وصلُوا إلى وضعِ الحجرِ الأسودِ، اختصمُوا وتنازعُوا، كلُّ قبيلةٍ تريدُ أنْ تضعَ الحجرَ الأسودَ تبركًا بهِ، حتى كادَتْ الحربُ أنْ تشتعلَ وظلَّ ذلكَ أربعةَ أو خمسةَ أيامٍ ،حتى أشارَ أحدُهُم وقالَ نحكِّمُ بينَنَا أولَ مَن يدخلُ مِن بابِ الكعبةِ ؟ فكانَ أولُ مَن دخلَ مِن بابِ الكعبةِ هو المصطفَي، فقالُوا لمَّا رأُوهُ هذا هو الأمينُ رضينَا بحكمهِ هذا مُحمدٌ ﷺ، وكان النبيُّ ﷺ مشهورًا بهذا اللقبِ قبلَ هجرتِه ﷺ، فكانتْ قريشٌ تضعُ أماناتِهم عندَهُ ﷺ، وعندمَا أرادَ النبيُّ ﷺ الهجرةَ إلى المدينةِ المنورةِ يقعُ النبيُّ المختارُ ﷺ في محنةٍ وفي مأزقٍ خطيرٍ ،ألَا وهو كيفيةُ ردِّ الأماناتِ إلى أهلهَا ،لماذا؟ لأنَّ النبيَّ ﷺ يعلمُ أنَّ الحقَّ أحقُّ أنْ يُتبعَ. لماذا؟ لأنَّ النبيَّ ﷺ يعلمُ أنَّ الخيانةَ ثلثُ النفاقِ. لماذا؟ لأنَّ النبيَّ ﷺ يريدُ أنْ يُعلَّمَ الأمةَ كيفيةَ ردِّ الأماناتِ إلى أهلِهَا، وهنا يتركُ النبيُّ ﷺ عليًّا بنَ أبِي طالبٍ وابنَ عمِّهِ وصهرِهِ في فراشِهِ، وكان مِن الأولَي أنْ يأخذَهُ معَه، ولم يكنْ نومُ علىٍّ في فراشِ النبيِّ ﷺ يُغيرُ المقاديرَ، ولم يكنْ نومُ علىٍّ يُفدِي النبيَّ ﷺ مِن القتلِ إنْ كتبَ اللهُ عليه القتلَ؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ مقدرٌ بإذنِ الملكِ الوهاب، ولكن نامَ علىٌّ رضي اللهُ عنه ليردَّ الأماناتِ إلى أهلِهَا ليردَّ الأماناتِ إلى الذين تآمرُوا على قتلهِ ﷺ وليعطِي كلَّ ذِي حقٍّ حقَّهُ ومستحقه، ثم يلحقُ بالنبيِّ في المدينةِ المنورةِ. انظروا كيفَ كانتْ أمانةُ المصطفَي ﷺ؟ لذا ربطَ المصطفَي ﷺ بينَ قضيةِ الإيمانِ وبينَ قضيةِ الأمانةِ، فلا إيمانَ لمَن لا أمانةَ له. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ إِلَّا قَالَ: ( لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ )، بل حفظُ الأمانةِ سببٌ مِن أسبابِ دخولِ الجنةِ، أسألُ اللهَ أنْ يجعلنِي وإياكُم مِن أهلِ الجنةِ، ففي الحديثِ الذي رواه أحمدُ في مسندهِ مِن حديثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ( اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)، بل لقد طلبَ منك النبيُّ المختارُ ﷺ بأداءِ الأمانةِ ولو خانكَ هذا الإنسان، فقال ﷺ: ( أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)، فما أحوجنَا إلى الأمانةِ في كلِّ شيءٍ وخاصةً في هذا الزمانِ الذي ضُيعتْ فيه الأمانةُ وكثرتْ فيه الخيانةُ ولا حولَ ولا قوةَ إلّا بالله. ومجالاتُ الأمانةِ كثيرةٌ ومتنوعةٌ، فمِن أهمِّهَا التكاليفُ والحقوقُ التي أمَرَ اللهُ تعالى برعايتِهَا وصِيانتِهَا، مِمَّا هو مُتعلِّقٌ بالدينِ، أو النفوسِ، أو العقولِ، أو الأعراضِ، أو الأموالِ، فالأمانةُ أيُّها السادةُ: ليستْ مقتصرةً على حفظِ المالِ فحسب، فالكثيرُ مِن الناسِ يعتقدُ أنَّ المقصودَ بالأمانةِ هو حفظُ المالِ فقط، أو حفظُ الودائعِ كأنْ يدفعَ إنسانٌ مالًا لآخر ليحفظَهُ له ،ثم يقومُ بردِّهِ في الوقتِ المناسبِ الذي طلبَهُ فيهِ، كلَّا فلو كانَ الأمرُ هو حفظُ المالِ فقط لكان الأمرُ سهلًا، ولكنْ كلمةُ أمانةِ كلمةٌ عامةٌ تشملُ جميعَ الأمانات. لذا أمرنَا اللهُ بأداءِ الأماناتِ كلّهَا فقال ربُّنَا: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) [سورة النساء: 58]، فتكاليفُ الشريعةِ كلُّهَا أمانةٌ، الصلاةُ أمانةٌ، إذا حافظتَ عليها فقد صُنْتَ الأمانةَ، وتقولُ لهُ الصلاةُ بلسانِ الحالِ حفظتنِي حفظَكَ اللهُ، وإذا ضيعَ الإنسانُ الصلاةَ فقد خانَ الأمانةَ، وتقولُ له الصلاةُ بلسانِ الحالِ ضيعتنِي ضيعكَ اللهُ ،والوضوءُ أمانةٌ، والزكاةُ أمانةٌ، والحجُّ أمانةٌ، والغسلُ مِن الجنابةِ أمانةٌ، فعن أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ( خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ وَصَامَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ قَالُوا يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ قَالَ الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ)، والاعترافُ لأصحابِ الحقوقِ بحقوقهِنَّ أمانةٌ عظيمةٌ، فالودائعُ أمانةٌ والشيكاتُ أمانةٌ ،فإذا أخذتَ شيكًا مِن إنسانٍ وغيرتَ فيهِ وبدلتَ وسلمتَ الشيكَ بغيرِ حقٍّ فقد خنتَ الأمانةَ، وستُسألُ عن ذلك أمامَ اللهِ تباركَ وتعالي. والديونُ أمانةٌ فمَن أخذَ أموالَ الناسِ يريدُ أداءَهَا أدَّي اللهُ عنهُ، ومَن أخذَهَا يريدُ اتلافَهَا أتلفَهُ اللهُ، فقد خانَ الأمانةَ، وصدقَ نبيُّنَا ﷺ إذ يقولُ كما في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ)، ولا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ.
والأعراضُ أمانةٌ: فلا تتحدثْ في أعراضِ الناسِ بالغيبةِ والنميمةِ، لأنَّ الغيبةَ والنميمةَ تعتبرُ خيانةً والعياذُ باللهِ. لقولِ صاحبِ الشفاعةِ ﷺ عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ( كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ مَالُهُ وَعِرْضُهُ وَدَمُهُ حَسْبُ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ).
والجوارحُ أمانةٌ: فالعينُ أمانةٌ ستسألُ عنها أمامَ ملكِ الملوكِ وجبارِ السماواتِ والأرضِ فلا تنظرْ بهَا إلى الحرامِ، الرِجلُ أمانةٌ فلا تمشِي بها إلى الحرامِ، واليدُ أمانةٌ، والفرجُ أمانةٌ، فكلُّ الجوارحِ أمانةٌ ستشهدُ عليكَ يومَ القيامةِ يومَ الحسرةِ والندامةِ { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) }، ويتعجبُ الإنسانُ مِن نطقِ الجوارحِ لِمَا شهدتُم علينَا فتقولُ كما قالَ ربُّنَا: { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)}، وعن زيدِ بنِ أسلم : الأشهادُ أربعةٌ : الملائكةُ الذين يحصونَ علينَا أعمالَنَا، وقرأَ: “وجاءتْ كلُّ نفسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ”. والنبيونَ شهداءٌ على أممِهِم ، وقرأَ : “فكيفَ إذَا جئنَا مِن كلِّ أمةٍ بشهيدٍ”. وأمةُ مُحمدٍ ﷺ شهداءُ على الأممِ ، وقرأَ: “لتكونُوا شهداءَ على الناس”. والأجسادُ والجلودُ وقرأَ: “وقالوا لجلودِهِم لِمَ شهدتُم علينا قالوا أنطقَنَا اللهُ الذي أنطقَ كلَّ شيءٍ”. فالجوارحُ كلُّهَا أمانةٌ فاتقوا اللهَ في أمانةِ ربِّكُم!!!!، وحفظُ الأمانةِ ورعايتُهَا مِن صفاتِ المؤمنينَ الصادقين، فقد قالَ تعالى بعدَ ذكرِ عددٍ مِن صفاتِ المؤمنينَ الوارثينَ للفردوسِ الأعلَى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]؛ أي: إذا اؤتمنُوا لم يخونُوا، بل يؤدُّونَهَا إلى أهلِهَا، وإذا عاهدُوا أو عاقدُوا أوفُوا بذلك، لا كصفاتِ المنافقينَ الذين قال فيهم رسولُ اللهِ ﷺ: (آيةُ المنافِقِ ثلاث: إذا حدَّثَ كذب، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤتمِنَ خان)، بل وصلَ الأمرُ بعظمِ حقِّ الأمانةِ أنَّ الشهادةَ في سبيلِ اللهِ تعالَى تُكفِّرُ بها كلّ شيءٍ إلّا الأمانة، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا أَوْ قَالَ: يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْأَمَانَةَ)، وقَالَ: (يُؤْتَى بِصَاحِبِ الْأَمَانَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيُذْهَبُ بِهِ إِلَيْهَا، فَيَهْوِي فِيهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَعْرِهَا، فَيَجِدُهَا كَهَيْئَتِهَا، فَيَأْخُذُهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، ثُمَّ يَصْعَدُ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِهَا زَلَّتْ فَهَوَتْ، وَهُوَ فِي أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ، وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّوْمِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الْوُضُوءِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ)، قَالَ: فَلَقِيتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، فَقُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَخُوكَ عَبْدُاللَّهِ؟ فَقَالَ: صَدَقَ)، فالواجبُ على عبادِ اللهِ أنْ يَرْعَوْا للأمانةِ حقَّهَا وأنْ يعرِفُوا لها مكانتَهَا وأنْ يعتنُوا بهَا غايةَ العنايةِ ويهتمُّوا بها غايةَ الاهتمامِ، فمَن ضيَّعَ الأمانةَ ولم يَصُنْهَا وأدَّاهَا كمَا اؤتمنَ عليهَا، فهو مُفرِّطٌ بظلمِهِ لنفسِهِ، ومبالغٌ في الجهلِ.
ثانيا: أمانةُ العاملِ والصانعِ سببٌ للرقِيِّ والازدهارِ
أيُّها السادةُ: إنَّ أمتنَا الحبيبةَ بحاجةٍ ماسةٍ إلى الموظفينَ والعمالِ الأمناءِ؛ لأنّهُم مِن أسبابِ رُقيِّهَا وتقدمِهَا وصلاحِ أحوالِهَا، وإنَّ مِنْ مَقَايِيسِ حَضَارَةِ الْأُمَمِ، وَمِنْ مَعَايِيرِ تَقَدُّمِهَا وَرُقِيِّهَا: نَزَاهَةُ أَفْرَادِهَا، وَأَمَانَةُ أَبْنَائِهَا، وإتقان صانعها ،فَإِذَا اضْطَرَبَ فِيهَا هَذَا الْأَمْرُ تَصَدَّعَ بُنْيَانُهَا، وَاخْتَلَّ نِظَامُهَا، وَاسْتَشْرَى فَسَادُهَا، فَلَا خَيْرَ فِي أُمَّةٍ سَادَهَا الْمَكْرُ وَالْخِيَانَةُ، وَتَشَعَّبَ فِيهَا الْخِدَاعُ وَالْإِضَاعَةُ، فَالْأَمَانَةُ عُنْوَانُ الصَّلَاحِ، وَيَنْبُوعُ الْخَيْرِ وَالْفَلَاحِ، والأمانةُ والإتقانُ مطلبٌ شرعيٌّ، وواجبٌ وطنيٌّ، وعملٌ إنسانيٌّ وَمَسْؤُولِيَّةٌ مُجْتَمَعِيَّةٌ، ومقصدٌ مِن مقاصدِ الشريعةِ الإسلاميةِ، الكلُّ مطالبٌ بهِ، والكلُّ محاسبٌ عنهُما بينَ يديِ اللهِ لمَنْ فرطَ وأهملَ واستباحَ، قالَ ربُّنَا جلَّ وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(الأنفال: 27).
ومِن أعظمِ الأماناتِ: الإتقانُ في العملِ، والإتقانُ صفةٌ نبيلةٌ، وغايةٌ ساميةٌ، وخلقٌ عظيمٌ مِن أخلاقِ الدينِ، ومبدأٌ كريمٌ مِن مبادئِ الإسلامِ ،وشيمةُ الأبرارِ المحسنينَ مِن الناسِ، وصفةٌ مِن صفاتِ المؤمنين، أمرَنَا بها الدينُ، وتخلَّقَ بهَا سيدُ المرسلين ﷺ. والعملُ الذي كُلّفتَ بهِ أمانةٌ، فهذا ابنُ مسعودٍ يقولُ: كُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ وَقَدْ فَرَّا مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَا يَا غُلَامُ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ لَبَنٍ تَسْقِينَا قُلْتُ إِنِّي مُؤْتَمَنٌ وَلَسْتُ سَاقِيَكُمَا فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذَعَةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ قُلْتُ نَعَمْ فَأَتَيْتُهُمَا بِهَا فَاعْتَقَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ وَمَسَحَ الضَّرْعَ وَدَعَا فَحَفَلَ الضَّرْعُ ثُمَّ أَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِصَخْرَةٍ مُنْقَعِرَةٍ فَاحْتَلَبَ فِيهَا فَشَرِبَ وَشَرِبَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ شَرِبْتُ ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ اقْلِصْ فَقَلَصَ فَأَتَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقُلْتُ عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ قَالَ إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ قَالَ فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ )(سورة لَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ )، كان ابنُ مسعودٍ لا يزالُ كافرًا، لكنَّه عرفَ أنَّ العملَ الذي كُلّفَ بهِ أمانةٌ مَن حافظَ عليهِ فقد حفظَ الأمانةَ، ومَن ضيّعَهُ فقد ضيّعَ الأمانةَ. فلا يستغلُّ الإنسانُ منصبَهُ وعملَهُ في جلبِ نفعٍ لهُ أو لأحدٍ مِن أقاربِهِ لقولِ النبيِّ المختارِ ﷺ فعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: ( يَقُولُ مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمْنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ …..)، وهذا هو الصحابيُّ الجليلُ أبُو ذرٍّ كما في الحديثِ الذي رواهُ مسلمٌ مِن حديث أَبِي ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا )، وإنَّ مِن أقوَى أسبابِ نجاحِ الوظائفِ والأعمالِ: اختيارُ الموظفينَ والعمالِ الذينَ تجتمعُ فيهم الأمانةُ في العملِ والقدرةِ عليهِ، وقد ذكرَ اللهُ -تعالى- هذينِ المقومينِ لنجاحِ العملِ في كتابِهِ، فقالَ تعالَى: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص: 26]، قالَ لهَا أبوهَا: “وما علمكِ بذلك؟ قالتْ لهُ: إنّهُ رفعَ الصخرةَ التي لا يطيقُ حملَهَا إلّا عشـرةَ رجالٍ، وإنِّي لمَّا جئتُ معهُ تقدمتُ أمامَهُ فقالَ لِي: كونِي مِن ورائِي، فإذا اختلفتْ عليَّ الطريقُ فاقذفِي لِي بحصاةٍ أعلمُ بهَا كيفَ الطريقُ لأهتدِي إليهِ”. وإِنَّ مُوسَى -علَيهِ الصَّلاةُ والسَّلاَمُ- لَمْ يُقَصِّرْ في مُهَمَّتِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَظِيفَتَهُ، ولَمْ يُغَادِرْ مَوقِعَ عَمَلِهِ حَتَّى قَضَى الأَجَلَ زَمَانًا وَمَكَانًا مَعَ صَاحِبِ العَمَلِ، وَلَمَّا انقَضَى الأَجَلُ غَادَرَ مَحمُودَ السِّيرَةِ، صَافِيَ السَّرِيرَةِ، أَفَلَا تَكُونُ لَنَا قُدوَةٌ حَسَنَةٌ فِيهِ وَفي سَائِرِ المُرسَلِينَ. وقالَ جلَّ وعلا في قصةِ سليمانَ عليهِ السلامُ مع بلقيس ملكةِ اليمنِ: {قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}[النمل: 39]، فذكرَ هذا العفريتُ مؤهلاتِهِ لحملِ عرشِ ملكةِ سبأٍ إلى الشام، وهي كونُهُ قادرًا على المجيءِ بهِ، وكونُهُ أمينًا على ما فيهِ. فهذان الوصفانِ: القوةُ والأمانةُ يضمنانِ صلاحَ الأعمالِ والوظائف. فالقوةُ تضمنُ القدرةَ على القيامِ بالعملِ المطلوبِ حصولَهُ وتأديتَهُ مِن غيرِ تقصيرٍ، والأمانةُ تضمنُ إتقانَهُ وحفظَ ما فيهِ مِن دونِ نقصٍ.
وقال جلَّ وعلا حكايةً عن يوسفَ -عليهِ السلامُ-: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف: 55]. فقوةُ يوسفَ هنا أمانتُهُ بعلمِهِ وحسنِ تدبيرِهِ وتصريفِهِ ما في الخزائنِ. وفي عهدِ أبي بكرٍ -رضي اللهُ عنه- تمَّ اختيارُ زيدِ بنِ ثابتٍ -رضي اللهُ عنه- لمهمةِ جمعِ القرآنِ مِن الرقاعِ والعظامِ وكتابتِهِ في صحائفَ خوفًا عليهِ مِن الضياعِ بموتِ حفاظِهِ، فقالَ لهُ أبو بكرٍ: “وإنَّك رجلٌ شابٌّ عاقلٌ لا نتهمُكَ”(متفق عليه)، فشبابُ زيدٍ وعقلُهُ وأمانتُهُ هي القوةُ لهذه المهمةِ العظيمةِ. وفي حديثِ حذيفةَ – رضي اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ لأهلِ نجران: «لأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلاً أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ» رواه البخاري ومسلم. فَاسْتَشْرَفَ لَهُ النَّاسُ، فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ -رضي اللهُ عنه .
فاتقوا اللهَ -أيُّها الموظفونَ والعمالُ- في أعمالِكِم ووظائفِكُم بأداءِ الأمانةِ فيهَا؛ لأنَّكُم مسؤولونَ عمَّا تعملونَ بينَ يدَى اللهِ جلَّ وعلَا واجتهدُوا في عملِكُم ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾(التوبة:105)….. وللهِ درُّ القائلِ:
بِقَدْرِ الْكَدِّ تُكْتَسَبُ المعَالِي *** ومَنْ طَلبَ العُلا سَهرَ اللَّيالِي
ومَنْ طلبَ العُلا مِن غيرِ كَدٍّ *** أَضَاعَ العُمْرَ في طلبِ الْمُحَالِ
لذا أمرنَا اللهُ جلَّ وعلا بأداءِ الأمانةِ فقال: { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ( النساء: 58)، جاءَ في سببِ نزولِ الآيةِ: أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ لمَّا نزلَ بمكةَ واطمأنَّ الناسُ، خرجَ حتى جاءَ البيتَ، فطافَ بهِ، فلما قضَى طوافَهُ، دعَا عثمانَ بنَ طلحةَ، ليأخذَ منهُ المفتاحَ فاختبأَ عثمانُ فوقَ الكعبة، فتبعَهُ علىٌّ وأخذَ منهُ المفتاحَ عنوةً، وفتحَ البابَ، فدخلَ رسولُ اللهِ البيتَ وصلَّى فيهِ ركعتينِ، فقامَ إليهِ العباسُ، ومفتاحُ الكعبةِ في يدِهِ فقال: يا رسولَ اللهِ، اجمعْ لنَا الحجابةَ مع السقايةِ، فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: أينَ عثمانُ بنُ طلحةَ؟ فدُعِيَ لهُ، فأمرَ رسولُ اللهِ عليًّا أنْ يردَّ المفتاحَ إلى عثمانَ بنِ طلحةَ ويعتذرَ إليهِ، ففعلَ ذلك عليٌّ، فقالَ لهُ: “هاكَ مفتاحَكَ يا عثمانُ، اليومُ يومُ برٍّ ووفاءٍ ” فقالَ لهُ عثمانُ: يا عليٌّ أكرهتَ وآذيتَ ثُمَّ جئتَ ترفقُ؟ فقالَ: لقد أنزلَ اللهُ في شأنِكَ قرآنًا، وقرأَ عليهِ هذه الآيةَ.( تفسير ابن كثير)، وتكريمًا لشأنِ عثمانَ والمفتاحِ والأمانةِ، خصَّهُ ﷺ وذريتَهُ مِن بعدِهِ بسدانةِ البيتِ والمفتاحِ فقالَ: ” خُذُوهَا يَا بني طَلْحَةَ خَالِدَةً تالدةً لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلا ظَالِمٌ، يَعْنِي حِجَابَةَ الْكَعْبَةِ.”( مجمع الزوائد)، ولمَّا ماتَ عثمانُ سلّمَهُ لابنِهِ شيبةَ ومازالَ المفتاحُ حتى يومِنَا هذا في بنِي شيبةَ !!
أيُّها السادةُ: اعلمُوا أنَّ ضياعَ الأمانةِ خطرٌ عظيمٌ على الفردِ والمجتمعِ بل هو مِن أسبابِ الهلاكِ في الدنيا والآخرةِ ،فضياعُ الأمانةِ مرضٌ سرطانيٌّ خطيرٌ مدمرٌ قَلَّمَا يعافَي منه إنسانٌ إلَّا ما رحمَ ربُّ الأرضِ والسماواتِ، إنَّه داءٌ عضالٌ حذّرَ منهُ سيّدُ الأنام ﷺ، و ضياعُ الأمانةِ داءٌ اجتماعيٌّ خطيرٌ ووباءٌ خلقيٌّ كبيرٌ، ما دبَّ في أسرةٍ إلّا كان سببًا لفنائِهَا وما فشَا في أمةٍ إلّا كان نذيرًا لهلاكِهَا فهي مصدرُ كلِّ عداءٍ وينبوعُ كلِّ شرٍّ وتعاسةٍ. لذا نهانَا اللهُ جلَّ وعلا عن الخيانةِ فقال ربُّنَا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) }سورة الأنفال بل كفي بضياعِ الأمانةِ خطرًا وذمًّا أنَّها سببٌ مِن أسبابِ بغضِ اللهِ للعبدِ سلمْ يا ربِّ سلمْ { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } سورة يوسف، بل الخيانةُ ثلثُ النفاقِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)، ليس هذا فحسب بل بيَّنَ النبيُّ المختارُ ﷺ أنَّ ضياعَ الأمانةِ مِن علاماتِ الساعةِ، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُخَوَّنَ الْأَمِينُ وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَ التَّفَحُّشُ وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ وَسُوءُ الْجِوَارِ)، ألم يقعْ ما أخبرَ بهِ الصادقُ المصدوقُ ﷺ، بل قال ﷺ كما في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ( سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ )، ألم يقعْ ما أخبرَ به الصادقُ الأمينُ ﷺ أصبحَ الخائنُ يُأمنُ والمؤتمنُ يُخوّنُ ويُصدقُ الكاذبُ ويُكذبُ الصادقُ ويتكلمُ التافهُ في أمرِ الناسِ ولا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ.
بل ضياعُ الأمانةِ مِن علاماتِ الساعةِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ قَالَ هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ( فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ )، ألم يقعْ ما أخبرَ بهِ الصادقُ الأمينُ ﷺ فضياعُ الأمانةِ مِن علاماتِ الساعةِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ: (أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمَانَةُ، وَآخَرُ مَا يَبْقَى الصَّلاةُ، وَلَيُصلى نَّ قَوْمٌ لا إِيمَانَ لَهُمْ)، فانتبهْ واحذرْ مِن ضياعِ الأمانةِ؛ لأنَّهُ مِن الهلاكِ والدمارِ في الدنيا والآخرةِ، فالأمانةُ سببٌ لتقدمِ الأممِ والشعوبِ ودليلٌ على الرقىِّ والتقدمِ والحضارةِ. والخيانةُ دليلٌ على التخلفِ والرجعيةِ، فاللهَ اللهَ في الأمانةِ، وفي الحفاظِ عليهَا وأدائِهَا إلى أصحابِهَا، ولنحذرْ مِن خيانتِهَا أو التفريطِ فيها، فإنَّ عاقبةَ ذلك وخيمةٌ، وتذكرْ!!!
إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فــلا *** تقلْ خلوتُ ولكن قُل علىَّ رقيب
ولا تحسبنَّ اللهَ يغفلُ ســـاعةً *** ولا أنَّ ما يخفَى عليـــه يغيب
ثالثا: إياكَ والطمعَ في أجرِ الأجيرِ
أيُّها السادةُ: إياكُم والطمعَ في أجرةِ الأجيرِ والعاملِ المسكينِ فهي خزيٌ وعارٌ وهلاكٌ ودمارٌ، فعدمُ إعطاءِ الأجيرِ أجرَهُ مصيبةٌ كُبرَي وبليةٌ عُظمَى انتشرتْ في المجتمعاتِ بصورةٍ مخزيةٍ، يعملُ المسكينُ ليلَ نهار، ويُهضُمُ حقُّهُ ويُأكلُ أجرُهُ ولا يتقِ اللهَ ولا يخافُ من الوقوفِ بين يدىِ اللهِ، ولا حولَ ولا قوةَ إِلا باللهِ، وكيف لا؟ واللهُ يقولُ{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]. ويقولُ النبيُّ العدنانُ ﷺ:« أعطوا الأجيرَ أجْرَه قَبلَ أنْ يَجِفَّ عَرَقُه» (ابن ماجه)، بل مِن صورِ الظُّلْمِ عَدَمُ إعطاءِ الْأَجِيرِ حَقَّهُ الذي يعملُ عندكَ بالأجرِ ولا تُعطيه أجرتَهُ هذا ظلمٌ، فعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قال :قال النبيُّ المختارُ ﷺ: { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أُعْطِيَ بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ } رواه البخاري. بل يَجبُ عدمُ تكليفِهِ فوقَ طاقتِهِ، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وفي الصحيحين من حديثِ أبي ذرٍ الغفاريِّ رضى اللهُ عنه قال: قال ﷺ:« إخوانُكم خَوَلُكم، جَعَلَهم اللهُ تحت أيْديكم، فمَن كان أخُوه تحت يَدِه فلْيُطعِمْه ممَّا يَأكُلُ، ويُلبِسْه ممَّا يَلبَسُ، ولا تُكلِّفوهم ما يَغلِبُهم، فإنْ كَلَّفتُموهم فأعينُوهم» متفقٌ عليه.
فالأمانةَ الأمانةَ قبلَ فواتِ الأوانِ، الأمانةَ الأمانةَ لننعمَ ولنسعدَ في الدنيا والأخرةِ ،الأمانةَ الأمانةَ للمحافظةِ على أمنِ واستقرارِ مجتمعِنَا، فمصرُنَا الغاليةُ أمانةٌ في أعناقِ الجميعِ، المحافظةُ عليها دينٌ وايمانٌ وإحسانْ وخيانتُهَا نفاقٌ وطغيانٌ .
أُتقنُ عملِي رفعةً لوطنِي وحرصًا على نهضتِهِ، فكَم مِن أممٍ تقدمتْ بسببِ إتقانِهَا للعملِ وأمانتها ؟ وكم مِن أممٍ تأخرتْ بسببِ عدمِ إتقانِهَا للعملِ وخيانتها؟ فالصانعُ المتقنُ والعاملُ الأمينُ ينطلقُ مِن دافعٍ دينيٍّ ومِن دافعٍ وطنيٍّ يقومُ بدورِهِ على أكملِ وجهٍ بإحسانِ العملِ وإتقانهِ بدقةٍ وحرصٍ ليساعدَ في رقيِّ وطنهِ وتقدمهِ …. وصدقَ النبيُّ ﷺ إذْ يقولُ:“ إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ“ رواه الطبراني. فمصرُنَا في مرحلةٍ فاصلةٍ.. وهذا يقتضِي منَّا جميعًا العملَ والسعيَ والإتقانَ والأمانة وأنْ نعملَ مجدينَ مخلصينَ لنهضةِ وطنِنَا مصرَ الغاليةِ ،فالاقتصادُ القويُّ يعني دولةً قويةً شامخةً ذاتَ مكانةِ بينَ الدولِ…. وهذا ما تسيرُ عليه دولتُنَا الحرةُ الغاليةُ مصرُ في جمهوريتِنَا الجديدة .
مصرُ الكنانةُ ما هانتْ على أحدٍ *** اللهُ يحرسُهَا عطفًا ويرعاهَا
ندعوكَ يا ربِّ أنْ تحمِى مرابعَهَا *** فالشمسُ عينٌ لهَا والليلُ نجواهَا
مَن شاهَدَ الأرْضَ وأَقْطَارَها *** والنَّاسَ أنـواعًا وأجناسًا
ولا رأى مِصْـرَ ولا أهلهَا *** فما رأىَ الدنيا ولا الناسَ
حفظَ اللهُ مصرَ قيادةً وشعبًا مِن كيدِ الكائدين، وشرِّ الفاسدين وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافِ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين.
اقرأ أيضاً
«أمانة العامل والصانع وإتقانهما».. نص خطبة اليوم الجمعة 3-5-2024