يوفر لكم موقع “من العاصمة الإخباري” خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير اليوم 25 شوال 1445 هـ، الموافق 3 مايو 2024م، بعنوان ” أمانة العامل والصانع وإتقانهما”.
عناصر خطبة الجمعة اليوم للدكتور خالد بدير
أولا: أهميةُ العملِ ومكانتُهُ في الإسلامِ.
ثانيا: العملُ والصنائعُ في حياةِ الأنبياءِ والصالحينَ.
ثالثا: أمانةُ العاملِ والصانعِ بينَ التطبيقِ والجزاءِ.
خطبة الجمعة اليوم للدكتور خالد بدير
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ، أمَّا بعدُ:
أولا: أهميةُ العملِ ومكانتُهُ في الإسلامِ
للعملِ أهميةٌ كُبرَى ومكانةٌ رفيعةٌ في الإسلامِ، لذلك أمرَنَا اللهُ سبحانَهُ بالسعيِ والضربِ في الأرضِ مِن أجلِ الرزقِ، قالَ تعالي: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } ( الملك: 15)، ويقررُ الإسلامُ أنَّ حياةَ الإيمانِ بدونِ عملٍ هي عقيمٌ كحياةِ شجرٍ بلا ثمرٍ.
فالإسلامُ لا يعرفُ سنًّا للتقاعدِ، ولذلكَ يدفعُنَا النبيُّ ﷺ دفْعًا إلى حقلِ العملِ حتى عندَ قيامِ الساعةِ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ” إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ؛ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فليغرسْهَا”. [ أحمد والبخاري في الأدب المفرد بسند صحيح ].
كما حثّنَا على اتخاذِ المهنةِ للكسبِ، فهي خيرٌ مِن المسألةِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:” لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ فَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ” (الترمذي وحسنه).
لذلك كان سيدُنَا عمرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنهُ يهتمُّ بالعملِ والترغيبِ فيهِ فيقولُ: ما مِن موضعٍ يأتينِي الموتُ فيهِ أحبُّ إلىَّ مِن موطنٍ أتسوقُ فيهِ لأهلِي أبيعُ وأشترِي، وكان إذَا رأَي فتىً أعجبَهُ حالهُ، سألَ عنهُ: هل لهُ مِن حرفةٍ؟ فإنْ قِيلَ: لا. سقطَ مِن عينيهِ، وكان إذا مُدِحَ بحضرتهِ أحدٌ سألَ عنهُ: هل لهُ مِن عملٍ؟ فإنْ قيلَ: نعم. قال: إنَّهُ يستحقُّ المدحَ، وإنْ قالُوا: لا. قال: ليسَ بذَاك ، وكان كلَّمَا مرَّ برجلٍ جالسٍ في الشارعِ أمامَ بيتهِ لا عملَ لهُ أخذَهُ وضربَهُ بالدرةِ وساقَهُ إلى العملِ وهو يقولُ: إنَّ اللهَ يكرَهُ الرجلَ الفارغَ لا في عملِ الدنيا ولا في عملِ الآخرةِ. وكان يقولُ أيضًا: “مكسبةٌ في دناءةٍ خيرٌ مِن سؤالِ الناسِ، وإنَّ اللهَ خلقَ الأيدَي لتعملَ فإنْ لم تجدْ في الطاعةِ عملًا وجدتْ في المعصيةِ أعمالًا “. وكان سعيدُ بنُ المسيبِ يتاجرُ بالزيتِ ويقولُ: واللهِ ما للرغبةِ في الدنيا ولكنْ أصونُ نفسِي وأصلُ رحمِي.”، وكان إبراهيمُ بنُ أدهمَ إذا قيلَ لهُ : كيفَ أنتَ ؟ قال : بخيرٍ ما لم يتحملْ مؤنتِي غيرِي. (إحياء علوم الدين – الإمام الغزالي).
إنَّ العملَ شرفٌ، ولو لم يكنْ الإنسانُ في حاجةٍ للعملِ، لكانَ عليهِ أنْ يعملَ للمجتمعِ الذي يعيشُ فيهِ، فإنَّ المجتمعَ يُعطِيهِ، فلابدَّ أنْ يأخذَ منهُ على قدرِ ما عندَهُ. يُروَى أنَّ رجلًا مرَّ على أبي الدرداء الصحابِيّ الزاهدِ – رضي اللهُ عنه- فوجدَهُ يغرسُ جوزةً، وهو في شيخوختِهِ وهرمِهِ، فقالَ لهُ: أتغرسُ هذه الجوزةَ وأنتَ شيخٌ كبيرٌ، وهي لا تثمرُ إلّا بعدَ كذا وكذا عامًا ؟! فقال أبو الدرداء: وما عليَّ أنْ يكونَ لي أجرهَا ويأكلُ منهَا غيري!!
وأكثرُ مِن ذلك أنَّ المسلمَ لا يعملُ لنفعِ المجتمعِ الإنسانيِ فحسب، بل يعملُ لنفعِ الأحياءِ، حتى الحيوانِ والطيرِ، والنبيُّ ﷺ يقولُ: ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ” [البخاري]. وبذلك يعمُّ الرخاءُ ليشملَ البلادَ والعبادَ والطيورَ والدوابَ.
ثانيا: العملُ والصنائعُ في حياةِ الأنبياءِ والصالحينَ
إنّنَا لو نظرْنَا إلى جميعِ الأنبياءِ عليهمُ السلامُ لوجدْنَا أنّ لهُم دورًا بارزًا في مجالِ العملِ والصنائعِ والاحترافِ، فقد كان لكلِّ واحدٍ مِن الأنبياءِ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ جميعًا حرفةً أو صنعةً يعيشُ بها، فهذا آدمُ – عليهِ السلامُ – كان حرَّاثًا، وكانتْ حواءُ تغزلُ القماشَ، وكان إدريسُ خيّاطًا وخطّاطًا، وكان إلياسُ نسَّاجًا، وكان نوحُ وزكريّا نجارينِ، وكان هودُ وصالحُ تاجرينِ، وكان إبراهيمُ زرّاعًا وبناءًّ، وكان أيوبُ زرّاعًا، وكان داودُ زرّادًا – أي يصنعُ الزردَ – وهو درعٌ مِن حديدٍ يلبسُهُ المحاربُ، وكان سليمانُ خوّاصًا، وكان موسى وشعيبُ ومُحمدٌ ﷺ وسائرُ الأنبياءِ عليهمُ السلامُ يعملونَ بمهنةِ رعيِ الأغنامِ. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:” مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟! فَقَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ “( البخاري).
إنّ سيدَنَا مُحمدًا ﷺ خاتمُ الأنبياءِ والمرسلينَ، ضربَ لنا أروعَ الأمثلةِ في العملِ والكسبِ والاحترافِ، فكان يقومُ بمهنةِ أهلهِ، يغسلُ ثوبَهُ، ويحلبُ شاتَهُ، ويرقعُ الثوبَ، ويخصفُ النعلَ، ويعلفُ بعيرَهُ، ويأكلُ مع الخادمِ، ويطحنُ مع زوجتِهِ إذا عييتْ ويعجنُ معها، وكان يُقطِّعُ اللحمَ مع أزواجِهِ، ويحملُ بضاعتَهُ مِن السوقِ، ونحرَ في حجةِ الوداعِ ثلاثًا وستينَ بدنةً بيدهِ، وكان ينقلُ الترابَ يومَ الخندقِ حتى اغبرَّ بطنُهُ، وكان ينقلُ مع صحابتِهِ اللبنَ – الطوبَ الترابيَّ- أثناءَ بناءِ المسجدِ، فَعَمَلُ رسولِ اللهِ ﷺ فيه ليرغِّبَ المسلمينَ في العملِ والبناءِ والتعميرِ، فقامَ المهاجرونَ والأنصارُ وعملُوا بجدٍّ ونشاطٍ حتّى قال أحدُهُم:
لئن قعدْنَا والنبيُّ يعملُ……………… لذاك منا العملُ المضللُ
إنّ العملَ والكسبَ والاحترافَ لم يكنْ في حياةِ الأنبياءِ فقط، بل ربَّي النبيُّ ﷺ صحابَتَهُ الكرامَ على الجدِّ والاجتهادِ والعملِ والاحترافِ من أجلِ البناءِ والتعميرِ، فكان لكلِّ واحدٍ منهم مهنةٌ يتكسبُ بها، فهذا أبو بكرٍ الصديقُ كان تاجرَ أقمشةٍ، وكان عمرُ بنُ الخطابِ دلّالًا، وعثمانُ بنُ عفانَ تاجرًا، وعليٌّ بنُ أبى طالبٍ عاملًا، وكان يقولُ مفتخرًا:
لنقلُ الصخرِ من قِمَمِ الجبالِ ………………….أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِنَنِ الرَّجَالِ
يَقُولُ النَّاسُ لي في الكسْبِ عارٌ……………….. فقلتُ العارُ في ذلِّ السؤالِ
كما كان عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ تاجرًا، والزبيرُ بنُ العوامِ خياطًا، وسعدُ بنُ أبِى وقاصٍ نبّالًا أي يصنعُ النبالَ، وعمرُو بنُ العاصِ جزارًا، وخبابُ بنُ الأرتِ حدادًا، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ راعيًا، والزبيرُ بنُ العوامِ خياطًا، وبلالُ بنُ رباحٍ وعمارُ بنُ ياسرٍ كانا خادمين، وسلمانُ الفارسيِ كان حلّاقًا ومؤبّرًا للنخلِ، وخبيرًا بفنونِ الحربِ، والبراءُ بنُ عازبٍ وزيدُ بنُ أرقم كانَا تاجرينِ. (راجع فتح الباري لابن حجر) .
ومع أنّهُم دعاةٌ حملُوا مشاعلَ الهدايةِ والنورِ للأمةِ إِلّا أنّهم سَعوا للكسبِ والاحترافِ من أجلِ بناءِ المجتمعِ .
ثالثا: أمانةُ العاملِ والصانعِ بينَ التطبيقِ والجزاءِ
إنَّ هناكَ انفصامًا وانفصالًا كبيرًا بينَ النظريةِ والتطبيقِ في إتقانِ العملِ والصنائعِ والحرفِ، فتجدُ أنَّ الفردَ يعملُ بإخلاصٍ وأمانةٍ وإتقانٍ إذا كان يعملُ لنفسهِ، أمّا إذا كان يعملُ في شركةٍ أو وظيفةٍ أو مؤسسةٍ أو وزارةٍ فإنَّهُ لا يُبالِي بعملِهِ، وإنَّ شغلَهُ الشاغلَ التوقيعُ في دفترِ الحضورِ والانصرافِ ( شاهدُ الزورِ )، ولا يهمُّهُ بعدَ ذلك جودةٌ أو إتقانُ صناعةٍ أو قيامُ مجتمعٍ أو سقوطُهُ أو أمانةٌ أو مراقبةٌ أو غيرُ ذلك!! وأسوقُ لكم قصةً واقعيةً تدلُّ على ذلك: يُروىِ أنَّ هناك رجلًا بناءً يعملُ في إحدىَ الشركاتِ لسنواتٍ طويلةٍ، فبلغَ بهِ العمرُ وأرادَ أنْ يقدمَ استقالَتَهُ ليتفرغَ لعائلتِهِ، فقالَ لهُ رئيسُهُ: سوفَ أقبلُ استقالتَكَ بشرطِ أنْ تبني منزلًا أخيرًا، فقبلَ البنَّاءُ العرضَ، وأسرعَ في تخليصِ المنزلِ ((دونَ تركيزٍ وإتقانٍ))، ثم سلَّمَ مفاتيحَهُ لرئيسِهِ، فابتسمَ رئيسُهُ وقالَ لهُ: هذا المنزلُ هديةٌ منِّي لك بمناسبةِ نهايةِ خدمتِكَ للشركةِ طولَ السنواتِ الماضيةِ، فَصُدِمَ رجلُ البناءِ، وندمَ بشدةٍ أنَّهُ لم يتقنْ بناءَ منزلِ العمرِ!!
أقولُ: لماذا تَرضَى للآخرينَ ما لا ترضَاهُ لنفسِكَ؟! لماذا تهتمُّ بعملِكَ الخاصِّ ونفعهُ خاصٌ غيرُ متعدٍّ، ولا تهتمُّ بأعمالِ الآخرينَ والوظائفِ العامةِ ونفعِهَا يعمُّ الآخرين؟! فاللهُ غنيٌّ عن أعمالِكَ وعبادتِكَ وليس بحاجةٍ إليهَا، فأنتَ الذي بحاجةٍ إليهَا وإلى أجرِهَا العظيمِ ..وكلُّ عملٍ تقدمُهُ –خيرًا أو شرًا مُتقَنًا أو غيرَ متقنٍ- فهو لك.
فراقبُوا ربَّكُم في أعمالِكُم، راقبُوا اللهَ في وظائفِكُم، راقبُوا اللهَ في صناعتِكُم وحرفِكُم، إنَّكُم إنْ فعلتُم ذلك عاشَ الجميعُ في سعادةٍ ورخاءٍ، وإلَّا عمَّ القحطُ والجدبُ والفقرُ البلادَ والعبادَ.
لذلك حضَّنَا الشرعُ الحنيفُ على إتقانِ العملِ والصناعاتِ بأساليبَ متنوعةٍ، فمِن هذه الأساليبِ أنَّ الحقَّ تباركَ وتعالى جعلَ الإتقانَ صفةً مِن صفاتهِ سبحانَهُ، فقالَ في وصفِ خلقهِ سبحانَهُ: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }. [النمل: 88].
وقد قصَّ علينَا القرآنُ الكريمُ قصةَ ذيِ القرنين، وبيَّنَ الحقُّ تباركَ وتعالَى أنَّ ذا القرنينِ قد بنَى سدًّا محكمًا لم يستطعْ يأجوجُ ومأجوجُ رغمَ قوتِهِم أنْ يعلُوه، ولا أنْ يتخذُوا فيهِ نقبًا ينفذونَ منهُ، قالَ تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا }. [الكهف: 97].وهذا يدلُّ على إتقانِهِ لبنائهِ ومبالغتهِ في تحسينهِ وتجويدهِ.
إنَّ قيمةَ إتقانِ العملِ والصناعةِ توصلُ العبدَ إلى محبةِ اللهِ تعالي ، يقولُ ﷺ:” إنَّ اللهَ يحبُّ إذا عملَ أحدُكُم عملًا أنْ يُتقنَهُ.”( الطبراني ) ؛ ولقد أحسنَ مَن قال:
إذا عملَ المرءُ المكلفُ مرةً …. عملًا فإنَّ العيبَ ألّا يحسنَهُ
فقـــــدْ ذكرَ المختارُ أنّ إلهنَا ….. يحــــــبُّ لعبدٍ خافَهُ أنْ يتقنَهُ
إنَّ سببَ تأخرِ المجتمعاتِ المسلمةِ في أهمِّ مجالاتِ الحياةِ إنَّما هو بسببِ فقدانِ إتقانِ الصناعاتِ وضحالةِ المهارةِ والعجزِ عن ملاحقةِ السباقِ الحديثِ في ميادينِ الثقافةِ والصناعةِ والمهارةِ، فكمْ مِن أرواحٍ أزهقتْ بسببِ الغشِّ وعدمِ الإتقانِ في مجالاتِ الصناعاتِ والحرفِ، وكمْ مِن أبراجٍ وعماراتٍ هُدمتْ بسببِ عدمِ الإتقانِ، وكمْ مِن قطاراتٍ انزلقتْ خارجَ القضبانِ بسببِ سوءِ الصناعةِ، وكمْ مِن عبَّاراتٍ وسفنٍ غرقتْ بسببِ عدمِ الجودةِ والإتقانِ، وكمْ مِن طرقٍ وكبارِي انهارتْ نتيجةَ عدمِ إتقانِ الصنعةِ، وهلمَّ جرًا !!
إنَّ الالتزامَ بالإتقانِ والجودةِ في الصناعاتِ يحققُ الصمودَ والاستقرارَ والتطورَ والنموَّ، كمَا أنَّ الإتقانَ والجودةَ في المنظورِ الإسلاميِّ عبادةٌ وطاعةٌ، فإذا حافظَ عليهما الصانعُ بهذهِ النيةِ تحققتْ لهُ البركةُ والخيرُ والنماءُ.
فيجبُ على العاملِ والصانعِ أنْ يتقنَ عملَهُ، لأنَّ أعمالَهُ كلَّهَا مكتوبةٌ ومسجلةٌ ومحصاةٌ عليهِ. وسيُجازَى كلُّ عاملٍ بمَا عملَ مِن خيرٍ أو شرٍّ. قالَ تعالَى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. (الكهف: 49). وقالَ سبحانَهُ وتعالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7؛ 8) . وفي الحديثِ القدسِي: ” يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ؛ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ “( مسلم ). وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:” مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ؛ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ؛ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ؛ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ؛ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ؛ فَمَن لَم يَجِد فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ”.(متفق عليه).
إنَّ جزاءَ العاملِ الأمينِ المتقنِ الفوزُ بالحياةِ الطيبةِ في الدارينِ، قالَ تعالَى: { مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ}. [النحل: 97] وذلك أنَّهُ مِن خصائصِ الإيمانِ،، أنَّهُ يثمرُ طمأنينةَ القلبِ وراحتَهُ، وقناعتَهُ بمَا رزقَ اللهُ، وهذه هي الحياةُ الطيبةُ.
نسألُ اللهَ أنْ يصبَّ علينَا الخيرَ صبًّا، وأنْ لا يجعلَ عيشنَا كدًّا،
وأنْ يرزقنَا الرزقَ الحلالَ وأنْ يباركَ لنَا فيهِ، وأنْ يحفظَ مصرَنَا مِن كلِّ مكروهٍ وسوءٍ.
اقرأ أيضاً
«أمانة العامل والصانع وإتقانهما».. نص خطبة اليوم الجمعة 3-5-2024