يوفر لكم موقع “من العاصمة الإخباري” خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير اليوم 27 شعبان 1445 هـ، الموافق 8 مارس 2024م، بعنوان ” يوم الشهيد وتاريخ الشهداء العظام”.
عناصر خطبة الجمعة اليوم للدكتور خالد بدير
أولا: بين منازل الشهداء ومنازل الصائمين.
ثانيا: بين فرحة الشهداء وفرحة الصائمين.
ثالثا: استحباب تمني الشهادة في سبيلِ اللهِ؟
خطبة الجمعة اليوم للدكتور خالد بدير
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ، أمَّا بعدُ:
أولا: بين منازل الشهداء ومنازل الصائمين
إنَّ مصرَنَا الحبيبةَ تحتفلُ وتحتفِي يومَ التاسعِ مِن مارسٍ كلَّ عامٍ بيومِ الشهيدِ، ولا شكَّ أنَّ للشهيدِ منزلةً عظيمةً عندَ اللهِ تعالَى. وقد جمعَ الرسولُ ﷺ بعضًا مِن هذه المنازلِ في حديثِهِ النبويِّ الشريفِ، فعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِب، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ:” لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ: يَغْفِرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دُفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الإِيمَانِ، وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ”. (أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه).
ومِن هذهِ المنازلِ والكراماتِ أيضًا: الحياةُ بعدَ الاستشهادِ مباشرةً: قالَ تعالى: { وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ} ( البقرة: 154)، وقالَ تعالى: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ( آل عمران : 169 ) .
ومنها: أنَّ الشهيدَ يأتِي يومَ القيامةِ اللونُ لونُ الدمِ والريحُ ريحُ المسكِ: فعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنهُ قالَ: قالَ ﷺ: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ. ” (البخاري).
ومنها: أنَّ الشهيدَ في الفردوسِ الأعلَى: فهذه أمُّ حارثةَ أتتْ النبيَّ ﷺ فقالتْ:” يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ. قَالَ: يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى.”(البخاري).
ومنها : أنَّ الشهيدَ لا يشعرُ بألمِ القتلِ وسكراتِ الموتِ : وفي ذلك يقولُ رسولُ اللهِ ﷺ: ” ما يجدُ الشهيدُ مِن مسِّ القتلِ إلا كمَا يجدُ أحدُكُم مِن مسِّ القرصةِ” ، هذه هي كراماتُ الشهداءِ ومنازلُهُم عندَ ربِّهِم .
وإذا كان الشهداءُ قد سبقونَا إلى الفردوسِ الأعلَى مِن الجنةِ، فإنَّ مَن بلغَهُ رمضانُ منكُم وصامَهُ إيمانًا واحتسابًا، فإنَّهُ يسابقُ الشهيدَ منزلةً في الجنةِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً. قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ!! فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ السَّنَةِ؟!! “( أحمد بسند حسن).
فهذا الرجلُ الذي تأخرَ موتُهُ سنةً، سبقَ إلى الجنةِ قبلَ الشهيدِ، وعلّلَ الرسولُ ﷺ ذلك بأنَّهُ صلَّى ستةَ آلافِ ركعةٍ، وصامَ شهرًا مِن رمضانَ زيادةً على صاحبِهِ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِهَا، فضلًا عن أعمالِ الخيرِ والطاعةِ الأخرَى.
فادعُ اللهَ أنْ يبلغكَ هذا الشهرَ الكريمَ، كما كان السلفُ يفعلونَ ذلك، فقد كانُوا يدعونَ اللهَ ستةَ أشهرٍ قبلَ رمضانَ أنْ يبلغَهُم رمضانَ، ثم يدعونَهُ ستةَ أشهرٍ بعدَ رمضانَ أنْ يتقبلَ منهم رمضانَ، وكان يحيَى بنُ أبي كثيرٍ يقولُ: “اللهمَّ سلمنَا إلى رمضانَ، وسلمْ لنا رمضانَ، وتسلمْهُ منَّا مُتقبَّلًا”. واعلمْ أنَّ بلوغَكَ رمضانَ، يجعلُكَ سابقًا إلى الجنةِ.
ثانيا: بين فرحة الشهداء وفرحة الصائمين
إنَّ فرحةَ الشهيدِ عندَ اللهِ يعجزُ اللسانَ ويجفُّ القلمَ عن وصفِهَا، فهنيئًا لكلِّ مَن ماتَ شهيدًا، هنيئًا لكلِّ مَن ماتَ مدافعًا عن وطنِهِ وأهلِهِ ودينِهِ وعرضِهِ !! هنيئًا لكلِّ مَن ماتَ صائمًا قائمًا للهِ، إنَّهُ يفرحُ بلقاءِ اللهِ وبمَا أعدَّهُ اللهُ لهُ مِن الثوابِ العظيمِ والنعيمِ المقيمِ، فَعَن جَابِر بنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي اللهُ عنهمَا يَقُولُ :” لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ ، لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ : يَا جَابِرُ ، أَلاَ أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ لأَبِيكَ ؟ وَقَالَ يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ : فَقَالَ : يَا جَابِرُ ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، اسْتُشْهِدَ أَبِي ، وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْنًا ، قَالَ : أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا ، فَقَالَ : يَا عَبْدِي ، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ ، قَالَ : يَا رَبِّ تُحْيِينِي ، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً ، فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ : إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يَرْجِعُونَ ، قَالَ : يَا رَبِّ ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي ، قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }.”( ابن حبان وابن ماجة والترمذي وحسنه ).
فهو يريدُ أنْ يبلغَ جابرًا ومَن وراءَهُ بلقاءِ اللهِ وبالفرحةِ التي فيها، فبلغَ عنهُ اللهُ وجاءَ التعبيرُ بقولِهِ ( فرحين )، وإعرابُهَا: حالٌ منصوبةٌ، فهذا حالُ كونِهِم فرحينَ بالطاعةِ والجهادِ والصيامِ وغيرِ ذلك مِن الأعمالِ الصالحةِ؛ لأنَّ العبدَ الطائعَ يفرحُ بلقاءِ اللهِ ويحبُّهُ ويتمناهُ، والعاصِي بخلافِهِ.
وإذا كان الشهيدُ يفرحُ بلقاءِ اللهِ تعالَى في الآخرةِ، فلا نغفلُ عن فرحةِ الصائمينَ بصيامِهِم ونحنُ مقبلونَ على شهرِ رمضانَ، شهرِ الصيامِ والفرحةِ. وقد صوّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هذه الفرحةَ بقولهِ” لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ”. (متفق عليه).
فالصائمُ يفرحُ بصومِهِ في الاخرةِ؛ لأنَّهُ في هذا الوقتِ يحتاجُ إلى شفيعٍ، فحينمَا يرَى الجزاءَ والحسناتِ والقصورَ الشاهقةَ، وحينمَا يرَى بابَ الريانِ المخصصَ للصائمينَ وحدَهُم، فإذا دخلَ منهُ أحدٌ غيرهُم أُغلقَ أوتوماتيكيًّا؛ فتزدادُ فرحةُ الصائمينَ بكلِّ ما انفردُوا بهِ مِن جزاءٍ، فضلًا عن الجزاءِ الذي لم يبينْهُ اللهُ لنَا وأخفاهُ عنَّا حينمَا قالَ اللهُ كما في الحديثِ القدسِي:” كلُّ عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلّا الصومُ فإنَّهُ لي وأنَا أجزِي بهِ“.( البخاري).
وتكتملُ الفرحةُ بأنَّ الصومَ لا مقاصةَ فيهِ، ومعنى ذلك أنَّ الإنسانَ يأتِي يومَ القيامةِ ومعهُ حسناتٌ كالجبالِ، ولكنّهُ عليه مظالمٌ تستغرقُ كلَّ حسناتِهِ، فجميعُ العباداتِ تُوفَّى منهَا مظالمُ العبادِ إلّا الصيام، فالاستثناءُ يعودُ إلى التكفيرِ بالأعمالِ، وقد سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَا تَقُولُ فِيمَا يَرْوِيهِ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ” كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ “؟ فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هَذَا مِنْ أَجْوَدِ الْأَحَادِيثِ وَأَحْكَمُها، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدَهُ وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ مِنْ سَائِرِ عَمَلِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا الصَّوْمُ، فَيَتَحَمَّلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَيُدْخِلُهُ بِالصَّوْمِ الْجَنَّةَ “( أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وسننه الكبرى). فالصيامُ للهِ عزَّ و جلَّ، ولا سبيلَ لأحدٍ إلى أخذِ أجرِهِ مِن الصيامِ، بل أجرهُ مدخرٌ لصاحبِه عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، فالصومُ لا يسقطُ ثوابُهُ بمقاصةٍ ولا غيرِهَا؛ بل يُوفرُ أجرهُ لصاحبهِ حتى يدخلَ الجنةَ فيوفَّى أجرُهُ فيهَا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ” أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ”( أخرجه مسلم). فظاهرهُ أنَّ الصيامَ مشتركٌ مع بقيةِ الأعمالِ في ذلك، ولكنَّ الأحاديثَ الصريحةَ خصصتْ الصيامَ مِن ذلك، فعن أبي هريرةَ قال : قال رسولُ اللهِ: ” كلُّ العملِ كفارةٌ إلّا الصوم، الصومُ لِي وأنَا أجزِي بهِ “( مجمع الزوائد ، للهيثمي ، وقال: رجاله رجال الصحيح.) والمعنى على هذا الوجه: كلُّ عملِ العبدِ ملكٌ لهُ يتصرفُ فيهِ في المظالمِ والكفاراتِ والمقاصةِ وغيرِهَا، إلّا الصومُ فإنَّهُ ملكٌ لِي، أتحملُ مظالمَ العبدِ كرمًا منِّي وشرفًا للصومِ، وأدخرُ الصومَ لعبدِي يدخلُ بهِ جنتِي، وهنا يفرحُ العبدُ بصومِهِ؛ لأنَّهُ أدخلَهُ الجنةَ.
إنَّ العبدَ المؤمنَ صاحبَ البضاعةِ الحسنةِ والأعمالِ الصالحةِ وما يحملُهُ مِن حسناتٍ يفرحُ بلقاءِ اللهِ والقدومِ عليهِ، وعلى العكسِ مِن ذلك فإنَّ العبدَ الطالحَ صاحبَ المعاصِي والبضاعةِ السوءِ وما يحملُهُ مِن آثامٍ وذنوبٍ يكرَهُ لقاءَ اللهِ والقدومَ عليهِ!! فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:” مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ؛ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ” قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ! قَالَ:” لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ.” ( متفق عليه ). وهكذا كانت الفرحةُ مشتركةٌ بينَ الشهداءِ والصائمينَ عندَ اللهِ في الآخرةِ.
ثالثا: استحباب تمني الشهادة في سبيلِ الله
يُسْتَحَبُّ للعبدِ أنْ يتمَنَّى الشهادةَ وأنْ يطلبَهَا مِن اللهِ في كلِّ وقتٍ وحينٍ، ولأنَّ فضلَ الشهادةِ عظيمٌ فقد تمنىَّ ﷺ الشهادةَ مُقسِمًا فقالَ: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ.” ( متفق عليه ). يقولُ ابنُ بطالٍ:” فيه فضلُ الشهادةِ على سائرِ أعمالِ البرِّ لأنَّهُ ﷺ تمناهَا دونَ غيرِهَا، وذلك لرفيعِ درجتِهَا، وكرامةِ أهلِهَا لأنَّ الشهداءَ أحياءٌ عندَ ربِّهِم يرزقون، وذلك واللهُ أعلمُ لسماحةِ أنفسِهِم ببذلِ مُهجَتِهِم في مرضاةِ اللهِ وإعزازِ دينِهِ، ومحاربةِ مَن حادَّهُ وعادَاهُ، فجازَاهُم بأنْ عوَّضَهُم مِن فَقْدِ حياةِ الدنيا الفانيةِ الحياةَ الدائمةَ في الدارِ الباقيةِ، فكانتْ المجازاةُ مِن حُسنِ الطاعةِ.”أ.ه
فينبغِي لكَ – يا عبدَاللهِ- أنْ تسألَ اللهَ الشهادةَ، وتتمنَّي الشهادةَ بصدقٍ وبنيةٍ خالصةٍ، يقولُ ﷺ:” مَنْ سأَلَ الشَّهادَةَ بصِدقٍ، بلَّغَهُ اللهُ مَنازِلَ الشُّهَداءِ، وإنْ ماتَ على فِراشِهِ ” ( مسلم ).
يقولُ الإمامُ النوويُّ:” معناهُ: أنَّهُ إِذَا سألَ الشهادةَ بصدقٍ أُعْطِيَ مِن ثوابِ الشهداءِ، وإنْ كانَ على فراشِهِ. وفيهِ : استحبابُ سؤالِ الشهادةِ، واستحبابُ نيةِ الخيرِ. “. (شرح مسلم ).
لذلكَ كانَ عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ يقولُ في دعائِهِ:” اللهمَّ ارزقْنِي شهادَةً في سبيلِكَ، واجعلْ موتِي في بلَدِ رسولِكَ ﷺ.” ( البخاري )، وفي رواية للطبراني عَنْ حَفْصَةَ ابْنَةِ عُمَرَ قَالَتْ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ، وَوَفَاةً فِي بَلَدِ نَبِيِّكَ» قُلْتُ: وَأَنَّى يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: «يَأْتِي بِهِ اللَّهُ إِذَا شَاءَ». وفي فتح الباري:” عن عوفِ بنِ مالكٍ أنَّهُ رأى رؤيَا فيها أنَّ عمرَ شهيدٌ مستشهدٌ، فقالَ لمَّا قصّهَا عليه أنَّى لي بالشهادةِ وأنا بين ظهرانِي جزيرةِ العربِ لستُ أغزو والناسُ حولِي ثم قال: بلى يأتي بها اللهُ إنْ شاءَ “. واستجابَ اللهُ دعاءَهُ، ورزقَهُ اللهُ الشهادةَ، ودُفنَ بجوارِ المصطفَي ﷺ.
إنَّ مدارَ الأعمالِ في الإسلامِ على النياتِ، ولذلك قالً ﷺ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».(البخاري). لهذا وضعَهُ الإمامُ البخارِيُّ رحمَهُ اللهُ الحديثَ رقم واحد في صحيحهِ، ليكونَ رسالةً قويةً لتصحيحِ النيةِ في الأعمالِ.
إنَّ الإنسانَ قد يأخذُ أجرَ الطاعةِ كاملًا وهو لم يعملُهَا لحسنِ نيتهِ، ونحن نعلمُ أنَّ جمعًا مِن الصحابةِ الكرامِ حبسَهُم العذرُ عن الخروجِ في غزوةِ تبوكٍ، ومع ذلك شاركُوا مَن خرجَ في الأجرِ؛ لصدقِ نيتِهِم وتحققِ العذرِ لديهِم، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَدَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ : ” إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا ، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ ” ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ، قَالَ : ” وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ ” . ( البخاري ). وفي المقابلِ قد يعملُ الإنسانُ الطاعةَ ويعاقبُ عليها لسوءِ نيتِهِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ” إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ…”. (مسلم)
لذلك قسَّمَ الرسولُ ﷺ الناسَ مِن حيثُ نياتِهِم إلى أربعةِ أصنافٍ، فَعَن أَبي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ” إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلاَ عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ”.( الترمذي وصححه) .
فعليكُم بإخلاصِ النيةِ في العباداتِ والطاعاتِ؛ لتفوزُوا في الآخرةِ بأعالِي المنازلِ مِن الجنَّاتِ.
وفي الختامِ: وفي يومِ الشهيدِ تحيةٌ عطرةٌ لأرواحِ شهدائِنَا الأبرارِ الذين ضحُّوا بأنفسِهِم مِن أجلِ حمايةِ أرضِهِم ومقدساتِهِم.
نسألُ اللهَ أنْ يرزقنَا عيشَ السعداءِ، وميتةَ الشهداءِ، ومرافقةَ الأنبياءِ، وأنْ يبلغنَا رمضانَ، وأنْ يحفظَ مصرَنَا مِن كلِّ مكروهٍ وسوء.