يوفر لكم موقع “من العاصمة الإخباري” خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير اليوم 17 شوال 1445 هـ، الموافق 26 أبريل 2024م، بعنوان ” تطبيقات حسن الخلق”.
عناصر خطبة الجمعة اليوم للدكتور خالد بدير
أولا: أهميةُ الأخلاقِ ومكانتُهَا في الإسلامِ.
ثانيا: حسنُ الخُلقِ طريقٌ إلى الجنةِ.
ثالثا: التطبيقُ العمليُّ لحسنِ الخُلقِ.
خطبة الجمعة اليوم للدكتور خالد بدير
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ، أمَّا بعدُ:
أولا: أهميةُ الأخلاقِ ومكانتُهَا في الإسلامِ
إنَّ للأخلاقِ أهميةً كُبرَى في الإسلامِ، فالخُلقُ مِن الدينِ كالروحِ مِن الجسدِ، والإسلامُ بلا خُلقٍ جسدٌ بلا رُوحٍ، وإنَّنَا لو نظرنَا إلى الدينِ الإسلامِيِّ لوجدنَاهُ ينقسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: عقيدةٌ وتتمثلُ في توحيدِ اللهِ تعالى، وشريعةٌ: وتتمثلٌ في العباداتِ مِن صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍّ وغيرِهَا، وأخلاقٌ: وتتمثلُ في الأخلاقِ الفاضلةِ في التعاملِ مع الآخرين. وكلُّ قسمٍ مِن هذه الأقسامِ الثلاثةِ يمثلُ ثُلثَ الإسلامِ، فالعقيدةُ تمثلُ ثُلثَ الإسلامِ، لذلك كانت سورةُ الإخلاصِ تعدلُ ثلثَ القرآنِ لاشتمَالِهَا على الجانبِ العقدِي، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ” (متفق عليه )، وكذلك العباداتُ تعدلُ ثلثَ الإسلامِ، والأخلاقُ- التي يظنُّ البعضُ أنْ لا علاقةَ لها بالدينِ – تعدلُ ثلثَ الإسلامِ، بل الإسلامَ كلَّهُ.
بل إنَّهُ ﷺ أخبرَنَا أنَّ الهدفَ مِن بعثتِهِ غرسُ مكارمِ الأخلاقِ في أفرادِ المجتمعِ فقالَ:” إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمَّمَ صالحَ الأخلاقِ” [أحمد والبيهقي والحاكم وصححه]. قال المناويُّ: “أيْ أُرسلتُ لأجلِ أنْ أكملَ الأخلاقَ بعدَ ما كانتْ ناقصةً، وأجمعُهَا بعدَ التفرقةِ.” وقد وقفَ العلماءُ عندَ هذا الحديثِ قائلينَ: لماذَا حصرَ النبيُّ ﷺ بعثتَهُ في مكارمِ الأخلاقِ مع أنَّهُ بُعِثَ بالتوحيدِ والعباداتِ وهي أرفعُ منزلةً وأهمُّ مِن الأخلاقِ؟!!
والجوابُ: أنَّ التوحيدَ والعباداتِ شُرعَتْ مِن أجلِ ترسيخِ مكارمِ الأخلاقِ بينَ أفرادِ المجتمعِ، فالغايةُ والحكمةُ مِن تشريعِ العباداتِ هي غرسُ الأخلاقِ الفاضةِ وتهذيبُ النفوسِ، كما في الصلاةِ والزكاةِ والصومِ والحجِّ وغيرِهَا.
ولأهميةِ الأخلاقِ أصبحتْ شعارًا للدينِ ( الدينُ المعاملةُ ) فلم يكنْ الدينُ صلاةً ولا زكاةً ولا صومًا فحسب.
قالَ الفيرُوز آبادي رحمَهُ اللهُ: “اعلمْ أنَّ الدينَ كلَّهُ خُلقٌ، فمَن زادَ عليكَ في الخُلقِ، زادَ عليكَ في الدينِ”.
بل إنَّ حسنَ الخُلقِ مِن كمالِ الإيمانِ، فصاحبُ الأخلاقِ الحسنةِ يكونُ كاملَ الإيمانِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:” أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا؛ وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا.” [أبو داود والترمذي وصححه]. قال المباركفورِي: ” أكملُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهُم خُلقًا “: لأنَّ كمالَ الإيمانِ يوجبُ حُسنَ الخُلقِ والإحسانَ إلى كافةِ الإنسانِ، ” وخياركُم خياركُم لنسائِهِم “: لأنّهنَّ محلُّ الرحمةِ لضعفِهِنَّ”.
وهكذا تظهرُ أهميةُ الأخلاقِ ومكانتُهَا في الإسلامِ حتى أصبحتْ شعارًا للدينِ تمثلُهُ كلَّهُ .
ثانيا: حُسنُ الخُلقِ طريقٌ إلى الجنةِ
اعلمُوا أنَّ حُسنَ الخُلقِ طريقٌ إلى الجنةِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ:” تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ “. [ أحمد والترمذي وصححه ] .
وقد وقفتُ كثيرًا عندَ هذا الحديثِ متسائلًا: لماذا اقتصرَ النبيُّ ﷺ في هذا الحديثِ على هذينِ الأمرينِ ؟!
قال العلماءُ في ذلك: لأنَّ تقوَى اللهِ تُصلِحُ ما بينكَ وبينَ اللهِ، فتمتثلُ الأوامرَ وتنتهِي عن المحرماتِ !!
وحُسنُ الخُلقِ يُصلِحُ ما بينكَ وبينَ الناسِ، فلا تكذبْ على أحدٍ، ولا تخنْ أحدًا، ولا تحقدْ على أحدٍ … إلخ
وقد حفلتْ السنةُ النبويةُ المباركةُ على كثيرٍ مِن الأحاديثِ التي تدلُّ على أنَّ الأخلاقَ طريقٌ إلى الجنةِ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:” أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ “. [ أبو داود والترمذي وحسنه]. كمَا أنَّ صاحبَ الأخلاقِ الحسنةِ رفيقُ النبيِّ ﷺ في الجنةِ، فعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:” إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: الْمُتَكَبِّرُونَ” [الترمذي وحسنه]. وحُسنُ الخُلقُ يثقلُ موازينَ العبدِ يومَ القيامةِ ويرفعُهُ درجاتٍ في الجنةِ، فعَنْ أَبِي الدرداءِ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ ﷺ: ” مَا مِنْ شَيْءٍ فِي اَلْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ اَلْخُلُقِ” ( أَبُو دَاوُدَ). ويقولُ أيضًا ﷺ:” إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ” . [أبودواد والحاكم وصححه].
كمَا أنَّ خُلقًا واحدًا مِن بينِ سائرِ الأخلاقِ قد يكونُ سببًا في دخولِكَ الجنة، فعَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ: اجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ وَأَبُو مَسْعُودٍ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: رَجُلٌ لَقِيَ رَبَّهُ فَقَالَ مَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: مَا عَمِلْتُ مِنْ الْخَيْرِ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ رَجُلًا ذَا مَالٍ فَكُنْتُ أُطَالِبُ بِهِ النَّاسَ فَكُنْتُ أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمَعْسُورِ، فَقَالَ: تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي” (مسلم) .
فخُلقٌ واحدٌ كان طريقًا لهذا الرجلِ إلى الجنةِ، فما بَالُكَ لو تحليتَ بمكارمِ الأخلاقِ كلِّهَا؟!!
لذلك اهتَمَّ الصحابةُ بحسنِ الخُلقِ وطلبِهِ مِن اللهِ، فعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ : بَاتَ أَبُو الدَّرْدَاءِ اللَّيْلَةَ يُصَلِّي فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ : ” اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي، حَتَّى أَصْبَحَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، مَا كَانَ دُعَاؤُكَ مُنْذُ اللَّيْلَةِ إِلا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ، قَالَ: يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ، إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يَحْسُنُ خُلُقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ الْجَنَّةَ، وَيَسُوءُ خُلُقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ سُوءُ خُلُقِهِ النَّارَ” (شعب الإيمان للبيهقي) .
إنَّ كثيرًا منَّا يُكثرُ مِن الصلاةِ والصيامِ والأعمالِ الصالحةِ، ولكنَّهُ للأسفِ يسوءُ خلقُهُ في التطبيقِ العملِيِّ مع الناسِ والأهلِ والجيرانِ، فسلَكَ بذلكَ طريقًا إلى النارِ بدلًا مِن طريقِ الجنةِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَة ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا ، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: ” هِيَ فِي النَّارِ ” ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا ، وَصَدَقَتِهَا ، وَصَلَاتِهَا ، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : ” هِيَ فِي الْجَنَّةِ ” . ( ابن حبان والحاكم وصححه ) .
إنَّ حُسنَ الخُلقِ لا يقتصرُ على معاملةِ الناسِ فحسب، بل تعدَّى ذلك إلى عالمِ الحيواناتِ والكلابِ والقططِ، فإحسانُكَ إلى البهائِمِ يكونُ سببًا في غفرانِ ذنوبِكَ ودخولِكَ الجنة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَسَلَّمَ قَالَ:” بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ؛ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ. فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ”(البخاري) .
فبحُسنِ خُلقِ هذا الرجلِ مع الكلبِ غفرَ اللهُ له. وفي مقابلِ ذلك، كان سوءُ الخُلقِ مع الهرةِ طريقًا إلى النارِ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:” عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ” (متفق عليه).
فإذا كان حُسنُ الخُلقِ مع الحيواناتِ والكلابِ والقططِ والدوابِّ سبيلًا إلى الجنةِ، وسوءُ الخُلقِ مع هذه الفئاتِ سبيلًا إلى النارِ، وهذا في عالمِ الكلابِ والحيواناتِ، فما بالكُم بمَن حسَّنَ خلقَهُ مع بني البشرِ؟!!! وما أجملَ قولَ ابنِ حبان: “ الواجبُ على العاقلِ أنْ يتحببَ إلى الناسِ بلزومِ حُسنِ الخُلقِ، وتركِ سوءِ الخلقِ؛ لأنَّ الخُلقَ الحسنَ يذيبُ الخطايَا كما تذيبُ الشمسُ الجليدَ، وإنَّ الخُلقَ السيءَ يفسدُ العملَ كما يفسدُ الخلُّ العسلَ، وقد تكونُ في الرجلِ أخلاقٌ كثيرةٌ صالحةٌ كلُّهَا، وخلقٌ سيئٌ، فيفسدُ الخلقُ السيئُ الأخلاقَ الصالحةَ كلَّهَا ” .
فعليكُم أنْ تُحسنُوا أخلاقَكُم لتكونَ طريقَكُم إلى الجنةِ، وإيَّاكُم وسوءَ الخلقِ حتى لا يكونَ طريقَكُم إلى النارِ .
ثالثا: التطبيقُ العمليُّ لحُسنِ الخُلقِ
ينبغِي على المسلمِ أنْ يكونَ قدوةً عمليةً تطبيقيةً لأخلاقِ الإسلامِ تأسيًّا بالرسولِ ﷺ، لذلك كان الصحابةُ يسألونَ عن أخلاقِهِ ﷺ ليقتدُوا بهِ، فقد سُئِلَت أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رضي اللهُ عنهَا عن أخلاقِهِ فقالتْ:” كان خلقُهُ القرآنَ” (مسلم)، قال الإمامُ الشاطبيُّ: “وإنَّما كانَ خلقُهُ القرآنَ لأنَّهُ حكَّمَ الوحيَ على نفسِهِ، حتى صارَ في علمِهِ وعملِهِ على وِفْقِهِ، فكان الوحيُ حاكمًا وافقًا قائلًا، وكان هو ﷺ مذعنًا ملبيًا نداءَهُ، واقفًا عندَ حكمِهِ.” (الاعتصام). فكان ﷺ قرآنًا يمشِي على الأرضِ، أي كانَ حريصًا على التطبيقِ العملِي لِمَا في القرآنِ.
إنَّنَا لو نظرنَا إلى واقعِنَا المعاصرِ لوجدنَا انفصالًا وانفصامًا في أخلاقِنَا بينَ النظريةِ والتطبيقِ، وسأحكي لكم قصةً تدلُّ على مدَى الانفصامِ والانفصالِ بينَ النظريةِ والتطبيقِ: شابٌ يعملُ في دولةٍ أجنبيةٍ، فأعجبتُهُ فتاةٌ أجنبيةٌ فتقدَّمَ لخطبتِهَا وكانت غيرَ مسلمةٍ، فرفضَ أبوهُ لأنَّها غيرُ مسلمةٍ، فأخذَ الشابُّ مجموعةً مِن الكتبِ تظهرُ سماحةَ الإسلامِ وروحِهِ وأخلاقِهِ ثُمَّ أعطاهَا لهَا، طمعًا في إسلامِهَا وزواجِهَا، فطلبتْ منهُ مهلةَ شهرينِ تقرأُ الكتبَ وتتعرفُ على الإسلامِ وروحِهِ وأخلاقِهِ وسماحتِهِ، وبعدَ انتهاءِ المدةِ تقدّمَ لهَا فرفضتْهُ قائلةً: لستَ أنتَ الشخصَ الذي يحملُ تلك الصفاتِ التطبيقيةَ التي في الكتبِ، ولكنِّي أريدُ شخصًا بهذه الصفاتِ.
لقد علمَنَا الرسولُ ﷺ التطبيقَ العمليّ لحُسنِ الخُلقِ في الحياةِ العمليةِ مع كلِّ مَن سبَّكَ أو شتمَكَ وآذاكَ.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ قَالَ : بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِسٌ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ ، وَقَعَ رَجُلٌ بِأَبِي بَكْرٍ فَآذَاهُ، فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ثُمَّ آذَاهُ الثَّانِيَةَ، فَصَمَتَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ ، ثُمَّ آذَاهُ الثَّالِثَةَ، فَانْتَصَرَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ انْتَصَرَ أَبُو بَكْرٍ, فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَجَدْتَ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” نَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُكَذِّبُهُ بِمَا قَالَ لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَرْتَ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لأَجْلِسَ إِذْ وَقَعَ الشَّيْطَانُ “(وأبو داود بسند حسن . فينبغِي عليكَ أنْ لا تردَّ على مَن سبَّكَ؛ لأنَّ اللهَ وكلَّ مَلكًا يردُّ عنكَ فإذا رددتَ انصرفَ الملكُ وحضرَ الشيطانُ ولا يخفى عليكَ حضورُ الشيطانِ ليمارسَ مهنتَهُ.